شَارِك المَقَال

تاريخ الأزمات المالية ليس سلسلةً من الحوادث العشوائية، بل هو تاريخٌ من تجاهُل التحذيرات الصغيرة.

 

الاقتصاد يقوم على الثقة

منذ ما يقرب من قرن، وتحديداً عام 1933، كان الرئيس الأمريكي روزفلت يعلم أن ما يُنْقِذ البنوك ليس المال، بل إيمان الناس بأنها ستبقَى، وفي خطابه الإذاعي الشهير ذكرها بوضوح: “أؤكد لكم يا أصدقائي أنّ إيداع أموالكم في بنكٍ أُعِيدَ فَتْحُه أكثر أماناً من إيداعها تَحْت الفراش”، كان ذلك اعترافاً رسمياً بحقيقة أنّ البنوك لم تكن يوماً مجرد خزائن حديدية تَحفظ الأموال، بل كانت قائمة على الثقة أكثر مما تقوم على الأصول.

 

هذا الخطاب لم يُلقَ على جمهورٍ اقتصاديٍّ، بل على أُمَّة خائفةٍ على أرزاقها، ومع ذلك، في اليوم التالي، اصطفَّ الناسُ لإيداع أموالهم من جديد… لماذا؟ لأنهم فهموا القصة.. وكانت تلك اللحظة درساً مهماً.. لكنّه لم يُحْفَظ. فمنذ ذلك اليوم وحتى الآن، نادراً ما أُعِيدَ سَرْد القصة بذات الوضوح.

 

حين وقعت الأزمة المالية العالمية 2008، لم يخرج علينا أحد بتصريح يشرح: ما الذي يحدث؟ ولماذا؟ بل تُرِكَ الناس يتخبَّطون بين تحليلات صحفية مُبْهَمَة، ومصطلحات مالية مُعقَّدَة، ونظريات مؤامرة لا تُقْنِع العقل ولا يطمئن لها القلب. والأسوأ، أن الخبراء أنفسهم كانوا، يَفتقرون للفهم العميق لما جرى.

 

من أسباب تفاقم الأزمات المالية

في الأزمة المالية لا يقع الحدث الكبير بسبب كارثة كبرى، بل نتيجة شرارة صغيرة جداً تشعل هشاشة موروثة في بِنْيَة النظام، تماماً كما حدَث حين بدأت قروض الرهن العقاري في التدهور بنسبة لا تتعدى 0.2% في سنداتٍ يُفْتَرض أن تكون آمِنَة.

 

ظنَّ الجميعُ أنَّ الأمرَ قابلٌ للاحتواء، لكنْ سرعان ما تحوَّلت تلك الخسارة المحدودة إلى زلزالٍ هَزَّ النظامَ الماليَّ بأكمله، وأطاح بـ12 بنكاً من أكبر المؤسسات المالية الأمريكية. ما حدَث لم يكن مرتبطاً فقط بالرَّهن العقاري، بل بانكشاف شامل لنقاط الضَّعْف التي لم يُعْتَرَف بوجودها أصلاً.

 

الأغرب أن السندات “الآمِنَة جداً” لم تُسجِّل أيّ خسائر فعلية في بداية الأزمة، انهارت لأنه لم يتأكَّد أحد أنها آمِنَة بالفعل، وكان الانهيار بشكلٍ تدريجيٍّ حيث وصلت معدلات الخسائر حتى 2013م 2.3%. ويُؤكِّد الخبراء والأكاديميون الذين عاصروا الأزمة أنها لم تكن حدثاً نادراً أو استثناء. بل كانت تكراراً لنمطٍ قديمٍ يَعتمد على تضخُّم القروض وتعقيدِ المنتجات المالية، ونقص الفهم.

 

منشأ الأزمة المالية

عندما يتوقَّف الناس عن الفَهْم، ويتوقَّفُ السوق عن العمل، فكلُّ أزمةٍ سابقةٍ كانت تبدأ من هنا.

حين سقط بنك ليمان براذرز، لم يكن هو المشكلة، بل كان الواجهة التي كشفت ما ظلَّ النظام يُخْفِيه لسنواتٍ. “كان النظام بأكمله مُفْلِساً، لكنْ لم يُخْبِرنا أحد بذلك”. فمنذ بداية الأزمة، والأسواق تَسِير كما لو كانت تَقُودها يدٌ مرتعشةٌ، تُسْقِطُ الثقةَ بكلِّ أصلٍ، بصرف النظر عن قيمته أو خطورته.

 

السؤال الذي طُرِحَ لاحقاً، وكان الأكثر غرابةً: لماذا لم تَحْدُث أزمة مالية طوال الفترة بين 1934 و2007؟ هل كنَّا أذكى؟ أم أن يد السوق الخفية كانت رحيمة؟

 

جوهر الأزمة المالية

هنا يكمن جوهر الأزمة المالية أنها ليست نتيجة خطأ واحد، بل هي انكشاف مفاجئ لسلسلة هشَّة من القرارات المتراكمة. مشكلات صغيرة في الرهن العقاري، أدوات مالية جديدة لم تُخْتَبر، مكافآت مُغْرية دَفَعَتِ الناس للمخاطرة، وشهية مفتوحة للدَّيْن قصير الأجل. اجتمعت كلها، لا في مشهد درامي واحد، بل في قلق يتصاعد بهدوء، إلى أن يُقرِّر السوق فجأة أنه لم يَعُد يثق بأحد.

 

خلاصة القول: لا تنهار الأنظمة المالية من الخارج، بل من داخلها.. من الشك، من الخوف، من اللحظة التي يتوقَّفُ فيها الناسُ عن تصديق أنَّ ما بين أيديهم له قيمة، فهل ننتظر أزمة أخرى لنتعلم ما كان يجب أن نَعرفه منذ البداية؟

 

 

شَارِك المَقَال