مشاركة

في عام 1915، وبينما كان العالم يشتعل بالحرب العالمية الأولى، كانت بريطانيا تخوض حربًا ضد دول المحور، ومنها الدولة العثمانية، حينها راسل هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر، الشريف حسين بن علي “شريف مكة”، ضمن ما عُرِفَ لاحقًا بمراسلات الحسين – مكماهون.

 

وعَد مكماهون الشريف حسين بدعم بريطاني لاستقلال العرب وإقامة دولة لهم، مقابل دعمهم لبريطانيا ضد الدولة العثمانية.

 

صدَّق الشريف حسين الوعود، وبالفعل قامت الثورة العربية الكبرى عام 1916م، وهزمت بريطانيا العثمانيين. لكنَّ الوعود لم تُنفَّذ، بل على العكس تمامًا تم تقسيم الدول العربية في الشرق بين فرنسا وبريطانيا، وتم خداع العرب وتوريطهم بحرب لصالح غيرهم.

 

هل ساهم العرب في خسارة أرضهم وحقوقهم؟

بعد عام واحد من الثورة العربية صدر وعد بلفور المشؤوم، الذي وعد به وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور اللورد اليهودي ليونيل روتشيلد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بمعنى أن العرب ساهموا في خسارة أرضهم وحقوقهم.

 

سنوات الحرب العالمية الأولى والسنوات القليلة التي تلتها يمكن وَصْفها بأنها الأهم في تاريخ الشرق الحديث، حتى الآن ما تزال المنطقة تدفع ثمن هذه السنوات، وهذا ما أشار له المؤرخ ديفيد فرومكين David Fromkin في كتابه:A peace to End all Peace” : سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط 1914–1922م”، يؤكد الباحث أن هذه السنوات هي التي رسمت ملامح الشرق الأوسط، لكن وفق مصالح الغرب وليس وفق مصالح العرب.

 

للأسف أحيانًا تكون ذاكرة الشعوب قصيرةً، وتعود لتقع في ذات الأخطاء، ولعل ما يجري اليوم بين الدروز في السويداء وبين إسرائيل يشبه إلى حد كبير ما جرى بين مكماهون والشريف حسين؛ وعود بالدعم والاستقلال مقابل الخروج على الدولة، ووصل الأمر ببعض الدروز لرفع عَلَم الكيان، وكأن إسرائيل التي تقتل الفلسطينيين تُشفق على السوريين!

 

وعود لأقليات المنطقة لم تُنَفَّذ

من هنا نستحضر سلسلةً طويلةً من الوعود التي وُزِّعَت على أقليات المنطقة، ولم تُنفَّذ. الأكراد مثلًا، وُعِدُوا في معاهدة سيفر عام 1920م، بحكم ذاتي في تركيا والعراق، مع إمكانية قيام دولة كردية لاحقًا، سرعان ما تبدَّدت تلك الآمال مع معاهدة لوزان عام 1923م.

 

ورغم مرور قرن من الزمان لم يحصل الأكراد إلا على تجربة “شبه حكم ذاتي” في إقليم كردستان العراق، وهي تجربة مُحاطَة بالقيود والصراعات الإقليمية، تُستخدَم كورقة مساومة بين القوى الكبرى أكثر مما تُعبِّر عن حقّ فِعْلي للشعب الكردي.

 

لم يكن حال الأرمن والآشوريين أفضل، فقد وُعِدَ الأرمن بدولة مستقلة، لكنَّ الوعود تبخَّرت أمام صعود تركيا وحروب ما بعد الحرب العالمية الأولى. أما الآشوريون، الذين قاتلوا إلى جانب الحلفاء على أمل الحصول على حُكم ذاتي في شمال العراق، انتهى بهم المطاف إلى مجازر ونزوح جماعي.

 

إذا نظرنا إلى الواقع الأحدث، نجد أن السيناريو نفسه يتكرَّر مع الشيعة في لبنان عبر ميليشيا حزب الله. فقد خدم الحزب مصالح إيران على حساب الدولة اللبنانية، وخاض حروبًا عبثيةً، وحتى عندما اغتالت إسرائيل قادته لم تتحرَّك إيران، واليوم يُمانع الحزب تسليم سلاحه ويُهدِّد بإدخال لبنان بحرب أهلية مقابل خدمته لمصالح طهران.

 

تداعيات اتفاقية سايكس بيكو

بالعودة إلى الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا إلى عام 1916م، وبينما كانت فرنسا وبريطانيا تقدم الوعود لشعوب المنطقة، كان تعقد اتفاقيةً سريةً هي اتفاقية سايكس بيكو، التي قسَّمت بلاد الشام ورسمت الحدود الحالية، وانتهى الأمر بالاحتلال.

 

وهذا ما أشارت إليه رواية “سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط”، في توضيح أن ما كان يقال في العلن يُفعَل نقيضه بالسر. وما أشبه اليوم بالأمس!

 

في سوريا تعتقد الأقليات من الأكراد في الشمال الشرقي، إلى العلويين في الغرب، والدروز في الجنوب؛ أنَّ دعوات الحكم الذاتي هي لحمايتهم، لكنّها ليست أكثر من مَساعٍ لتحقيق مصالح الدول الكبرى، والأقليات هي مجرد أدوات سرعان ما تُتْرَك لمصيرها بعد تنفيذ المطلوب منها.

 

خلال الاحتلال الفرنسي لسوريا، وعدت باريس العلويين بدولة مستقلة، والتي استمرت عدة سنوات، وانضم بعض العلويين للجيش الفرنسي، لكن بعد الاستقلال تخلَّت عنهم.

 

القوى الكبرى لا تَمنح الوعود إلا لخدمة مصالحها

خلاصة الأمر والدرس الواضح أن القوى الكبرى لا تمنح الوعود إلا لخدمة مصالحها. الأقليات تُستغل كأدوات ضغط، لا كأطراف حقيقية في معادلة الاستقلال. وما لم تُدرك الأقليات هذه الحقيقة، ستظل تدفع الثمن نفسه جيلًا بعد جيل.

 

المعادلة لم تتغير منذ مئة عام: الوعود تُصاغ في العواصم الكبرى، وتُبَاع للأقليات كطريق للخلاص، لكنّها تنتهي دائمًا بتقسيمات أعمق وخسائر أكبر، فيما يبقى المستفيد الوحيد هو مَن قطَع الوعد لا من صدَّقه. وهكذا تتحوَّل الأحلام بالاستقلال إلى ألغام جديدة تَجُرّ أصحابها لمزيدٍ من التبعية والانقسام.

 

مشاركة