مشاركة

في عام 1848 في كاليفورنيا، وبينما عامل بسيط يُدْعَى جيمس مارشال يُنجِز عمله في وادي كولوما، بدا له شيء ما يلمع تحت أشعة الشمس، تلك اللمعة كانت هي قِطَع صغيرة من الذهب، وهو اكتشاف لم يكن يُدرك وقتها أنه سيُشْعِل ما عُرِفَ لاحقًا بـ”حُمَّى الذهب”.

 

خلال شهور قليلة، بدأت موجة هجرة غير مسبوقة؛ آلاف المغامرين تركوا بيوتهم وأعمالهم واندفعوا نحو الغرب بحثًا عن الثروة. لم تتغيَّر فقط ملامح كاليفورنيا، بل اهتزَّت أسواق العالم بأسعار الذهب، وأُعِيد رسم خريطة الاستثمار، لترسخ الفكرة التي ستبقى حاضرةً حتى اليوم: “الذهب ليس مجرد معدن، بل هو رمز للثروة ومخزن للقيمة”.

 

العُمْلة التي يثق بها الجميع

منذ ذلك الوقت، ظل الذهب حاضرًا في معادلات الاقتصاد. لم يكن مجرد مادة أولية، بل أداة لحِفْظ القيمة والتحوُّط ضد المخاطر. مع مرور العقود، أثبت الذهب أن هذا البريق لا يَخْفُت في الأزمات.

 

خلال أزمة الكساد الكبير، كان المستثمر يُحوِّل مُدّخراته إلى ذَهَب لحمايتها من الانهيار النقدي. شركات التعدين ارتفعت قيمتها، بينما انهارت البورصات. وفي الأزمة المالية العالمية عام 2008م، سقطت مؤسسات مصرفية كبرى واحدة تلو الأخرى، وارتفع الطلب على الذهب بقوة، لتقفز الأسعار إلى مستويات قياسية.

 

بين عامي 2000 و2024م ارتفع سعر الذهب من 270 دولارًا للأونصة إلى 3300 دولار، بمعنى أن سعره تضاعف أكثر من 12 مرة، هذا الارتفاع الكبير ليس حركةً سوقيةً عابرةً، بل هو تعبير عن حالة خوف جماعية ورغبة عالمية في الأمان. وكأن الذهب يصبح في لحظات الفوضى “العُملة الأخيرة” التي يثق بها الجميع.

 

هل الذهب استثمار مثالي دائمًا؟

الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty، يلفت النظر في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، إلى أن الصورة أعقد مما تبدو عليه. صحيح أن الذهب يُعدّ أصلًا نادرًا لا تتدهور قيمته مع الزمن، لكنّه رغم ذلك لا يُشكِّل سوى نسبة محدودة من الثروة. في معظم الدول، لا تتجاوز نسبته 5 إلى 10% من الدخل القومي. بمعنى آخر: مهما ارتفعت أسعار الذهب، يظل تأثيره محدودًا على ثروة الدول. وبذلك قد يكون ملاذًا آمنًا، لكنّه ليس المحرّك الأكبر للاقتصاد.

 

ميزان يُحدِّد إيقاع الاقتصاد العالمي

لفَهْم العلاقة مع النظام المالي، يكفي أن نتذكَّر “قاعدة الذهب” التي حكمت العالم حتى الحرب العالمية الأولى. حينها كانت البنوك المركزية عاجزةً عن طباعة نقود إلا بقَدْر ما تملكه من ذهب.

 

الأسعار نفسها كانت تتحرَّك مع “الحظ”؛ اكتشاف منجم جديد في كاليفورنيا أو بوليفيا كان كفيلًا بإطلاق موجة تضخم، بينما ثبات كمية الذهب مع استمرار النمو كان يعني انخفاضًا عامًّا في الأسعار. هكذا كان الذهب أشبه بالميزان الذي يُحدِّد إيقاع الاقتصاد العالمي، صعودًا وهبوطًا.

 

حتى بعد التخلي عن تلك القاعدة، بقي الذهب حاضرًا كظل ثقيل، يُذكِّر الحكومات أن هناك أصلاً خارج السيطرة، وهو الذهب الذي لا يمكن طباعته بجرة قلم.

 

الذهب يلعب دورًا مزدوجًا

الذهب يلعب دورًا مزدوجًا؛ فهو أصل يحفظ القيمة عبر الزمن، وعنصر إنتاجي في صناعات متقدمة. هذه الطبيعة المزدوجة تُفسِّر لماذا ظلَّ الذهب حاضرًا في السردية الاقتصادية، حتى وإن تذبذبت أسعاره.

 

الذهب يبدو للكثيرين “هو الرابح دائمًا”، لكنّ الحقيقة أكثر تعقيدًا؛ فأسعار الذهب ترتفع في أوقات القلق وعدم اليقين، لكنّها قد تتراجع مع استقرار الأسواق وعودة المستثمرين إلى الأصول ذات العوائد المنتظمة مثل الأسهم والسندات.

 

العوامل العالمية تلعب دورًا حاسمًا كذلك؛ فقرارات البنوك المركزية، خصوصًا في الاقتصادات الكبرى، يمكن أن تقلب الموازين. خلال العقدين الأخيرين، زادت الصين وروسيا المشتريات من الذهب كجزء من إستراتيجية للتحوُّط ضد الاعتماد على الدولار. وفي المقابل، تُؤثّر سياسات الفائدة الأمريكية مباشرةً؛ فحين ترتفع الفائدة يَقِلّ بريق الذهب، وحين تنخفض يعود ليتألق من جديد.

 

الذهب استثمار وملاذ آمِن

كثير من الناس لا يهمهم تصنيف أهل الاقتصاد للذهب؛ سواء اعتبروه ثروة أو رأس مال، بقدر ما يهمهم إن كان يحمي مُدّخراتهم من التضخم، ويضمن لهم الأمان وقت الأزمات.

 

والذهب عبر تاريخه أثبت أنه “مَلاذ آمِن”، يلجأ إليه الناس عندما تهتزّ الأسواق أو تتراجع قيمة العملات. لهذا السبب يظل حاضرًا في خيارات الادخار، سواء على شكل سبائك أو جنيهات أو حتى حُلِيّ؛ لأنه ببساطة يُوفِّر شعورًا بالاطمئنان أكثر مما تفعله البنوك أو الأوراق النقدية.

 

في السنوات الأخيرة كسر الذهب القاعدة التقليدية، وأصبح استثمارًا وملاذًا آمِنًا معًا؛ لأن ارتفاع سعره أدَّى لتحقيق أرباح لم تُحقّقها أيّ استثمارات أخرى، وفي نفس الوقت كان ملاذًا آمنًا لا يتأثر سلبًا بالأزمات، لكن رغم هذه الأرباح الكبيرة تبقى الصفة الملازمة للذهب هي الأمان وليس الاستثمار؛ لأنه قد يخسر أحيانًا، كما حدث في الجمعة السوداء عام 1869م، عندما انهار السوق.

 

الخلاصة، القاعدة تقول: “الذهب يمرض ولا يموت”، وهو ليس طريقًا مضمونًا إلى الثراء السريع، لكنّه أداة قوية للتحوُّط وحفظ القيمة في عالمٍ يتقلّب باستمرار. والتاريخ يُثبت أن بريق هذا المعدن يزداد في الأزمات. وربما لهذا السبب، سيبقى الذهب دائمًا هو “الرابح الأخير”.

مشاركة