شَارِك المَقَال

في صيف 2015، وبينما كانت عواصم الغرب منشغلةً في صراعاتها السياسية وأزماتها الاقتصادية، خرجت بكين بخطة حذر ودهاء “Made in China 2025”، لم تكن وثيقة تقنية فحسب، لكنها كانت بمثابة إعلان غير مباشر أنّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم لم يَعُد يَرْضى بلَعِب دور المُصَنِّع الرَّخيص للعالَم، بل يطمح إلى الجلوس على طاولة التقنية المتقدّمة.

 

لكنَّ التحرُّك لم يَمُرّ بسلامٍ، ففي عام 2018 صنَّفها البيت الأبيض ضِمْن “التهديدات الإستراتيجية”، لتبدأ واشنطن بفَرْض قيودٍ على صادرات الرقائق والتقنيات الدقيقة. وتم اتخاذ إجراءات تشريعية وسنّ قوانين تهدف إلى الحدّ من مخاطر الاستثمار الأجنبي، وتم اتخاذ إجراءات دفاعية وتكنولوجية لحماية البِنْيَة التَّحتيَّة من المستثمرين الصينيين، في هذا الوقت كانت شوارع واشنطن تَضِجُّ بخطَط حصار هواوي، وكانت وول ستريت تتباهى بهيمنة شركات الرقائق الأمريكية.

 

تفوُّق التنين الصيني

بعدَ عَشْر سنوات، وفي ظلّ حصارٍ أمريكي مُشدَّد، يبدو أن التِّنِّين لم يَحْرِق جناحيه، بل أحكَمَ قبضته على 5 من أصل 13 تقنية إستراتيجية في مجالات حيوية: من الروبوتات، السيارات النظيفة، الرقائق الدقيقة، إلى السكك فائقة السرعة، والطاقة الشمسية، ومع تحقيق من 60% إلى 70% تسعى الصين لتطوير التقنيات التي تمتلكها وتحقيق كافة الأهداف المرجوة من الخطة، مما يُثير تساؤلاً حقيقيّاً: هل أصبح المستقبل يُصْنَع في الصين؟

 

هل أصبح المستقبل يُصْنَع في الصين؟

لنبدأ من السكك الحديدية فائقة السرعة، وَحْدَها تُمثِّل قصة نجاح مُذْهِلة؛ حيث افتتحت الصين أول خط سكة حديد فائق السرعة في عام 2008م، واستمر تطوير السكك الحديدية حتى أصبحت الصين تمتلك أطول شبكة قطارات سريعة في العالَم، بطول يتجاوز 48 ألف كيلو متر، ليس هذا فحسب، كما أصبحت علامة الصين في هذا القطاع معياراً يُحْتَذى في السرعة والدقة، ولم تَعُد وسيلة نَقْل داخلية فقط، بل سلعة للتصدير، تبيعها الصين لدول من إندونيسيا إلى صربيا.

 

أمَّا في قطاع البطاريات، فتقف شركات مثل CATL على قمة السوق العالمي، وتُزوِّد شركات كبرى مثل BMW وTesla، بينما تجاوزت مبيعات BYD وَحْدها حاجز 3 ملايين سيارة في 2023، كما أن الحصة السوقية للسيارات الكهربائية الصينية في أوروبا تضاعفت خلال عامين فقط، في دلالة على التحوُّل النَّوعي لا الكَمِّي.

 

أما في الطاقة الشمسية، فقد حَطَّمت الصينُ الأرقامَ القياسية؛ فنحو 84% من ألواح الطاقة الشمسية في العالم تُصَنَّع في الصين، وتُصَنِّع أيضاً 92% من الخلايا الشمسية، وهذا جَعَل بكين عنصراً لا يمكن تجاوُزه في أيِّ مسارٍ للطاقة النظيفة عالميّاً.

 

حتى في السماء، تتفوق الصين عبر شركة DJI التي تستحوذ وحدها على حصة تتراوح بين 70% إلى 80% من سوق الطائرات الدرونز، أما في المختبرات، فقد سجَّلت الصين أعلى عدد من براءات اختراع الجرافين، متقدّمة على الولايات المتحدة وكوريا منذ 2010م وحتى الآن، تلك المادة التي وُصفت بأنها مفتاح الثورة التقنية القادمة.

 

وبراءات الاختراع المتعلقة بالجرافين تُغطِّي مجموعة واسعة من التطبيقات، بما في ذلك الإلكترونيات، والمواد المُركَّبة، والطاقة، والطِّبّ، والبيئة، وغيرها.

 

ما أسباب نجاح الإستراتيجية الصناعية للصين ؟

السؤال هنا: هل نجحت الصين فقط بفضل الأموال؟

الإجابة أعقد من ذلك. فالأمر لا يتعلق بالتصدير فحسب، بل بإعادة هندسة سلاسل التوريد. ففي ظل العقوبات الأمريكية لم تكن مجرد حجر عثرة في هذا المسار، بل كانت مُحفِّزاً داخلياً لمزيد من الاستثمار والابتكار.

 

بعد حظر هواوي وشركات الرقائق، وعلى رأسها شركة SMIC التي كانت شِبْه مغمورة قبل خمس سنوات، بدأت في إنتاج رقائق 7 نانومتر، لتدخل مجال المنافسة مع عمالقة السوق مثل TSMC التايوانية، وهذا وسط دعم حكومي صريح ومفتوح.

 

كما أنشأت الصين “صندوق أشباه الموصلات الثالث” بقيمة تبلغ 344 مليار يوان، لدعم الصناعات المتقدّمة محليًّا، كما منعت بكين بعض الشركات الكبرى من التعامل بالدولار، وركزت على دعم مشاريع السيادة الرقمية والتكنولوجية، في مسعًى واضحٍ لبناء اكتفاء ذاتي تكنولوجي.

 

الصين لا تنظر فقط إلى إستراتيجية العام الجاري 2025، بل بدأت تنفيذ خطة China Standards 2035، وهي نسخة متقدمة تهدف إلى تحديد المعايير الصناعية العالمية نفسها، وفي COP30 المقبل، من المتوقع أن تَفرض بكين نفسها كمحور في أيّ انتقال عالمي للطاقة.

 

ختاماً: هل تتربَّع الصين على عرش صناعة الغد؟ قد لا تكون الإجابة حاسمة بعد، لكنّ المؤشرات تقول: إن بكين لم تَعُد تسعى للالتحاق بالغرب، بل لتجاوزه.

 

شَارِك المَقَال