مشاركة

هل تنتهي الشراكة الأمريكية الأوروبية؟

 

العالم يقف اليوم على أرضٍ سياسية تتغيَّر بسرعة؛ تحالفات تتحرَّك، أولويات تتبدَّل، ومشهد دولي يبدو متشابكًا أكثر من أيّ وقت مضى. وسط هذا المشهد، يظهر خلاف واضح بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ لا يتعلق فقط بالسياسة اليومية، بل يمتدّ إلى ملفات دولية كبيرة، من أوكرانيا إلى الصين، ومن روسيا إلى كوريا الشمالية؛ اختلاف في الرؤية، وفي طريق إدارة الأزمات، وحسابات النفوذ والمصالح.

 

هذا التباعد جعل البحث عن نقطة التقاء بين الطرفين موضوعًا صعبًا، بل شبه مستحيل في بعض الأوقات. ومع ذلك، وبين الضجيج والصراع السياسي، يظهر أحيانًا ضوء صغير في مكان غير متوقَّع… ضوء يشير إلى أن المصالح المشتركة قد تكون أقوى من الخلافات، وأن مساحة التفاهم ما زالت قائمة.

 

في دمشق، تكشف الأحداث عن قدرة الأطراف على التعاون رغم الانقسامات العميقة، وتوضّح أن المصالح المشتركة قد تكون أقوى من الخلافات، ولو لفترةٍ قصيرة.

 

ما الجديد في خطة “أمريكا أولًا”؟

في ديسمبر 2025، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب عن إستراتيجية جديدة للأمن القومي. وثيقة من 33 صفحة، تَحمل ملامح سياسة “أمريكا أولًا”. هذه الإستراتيجية لم تكن مجرد تحديث بسيط، بل كانت خروجًا واضحًا عن طريقة التفكير التي حكمت السياسة الأمريكية لسنوات. النهج الجديد يبتعد عن فكرة أن واشنطن هي الحارس الأول للنظام العالمي، ويقترب من رؤية أكثر مصلحية في الداخل والخارج.

 

الإدارة الأمريكية أعلنت رؤية جديدة لضمان بقاء الولايات المتحدة في موقع القوة الأولى. في هذه الرؤية، وجّهت انتقادات حادة للإدارات السابقة، على اعتبار أن الموارد أُهْدِرَت في حروب طويلة ومشاريع بناء دول لم تُغَيِّر الكثير على الأرض.

 

أما الآن فالمسار مختلف؛ فالإستراتيجية ركَّزت على حماية الحدود، وعلى زيادة المكاسب الاقتصادية الأمريكية، وعلى تقاسم الأعباء مع الحلفاء دون أن تتحمَّل واشنطن كل شيء.

 

هل أصبحت أوروبا عبئًا على أمريكا؟

الجزء الأكثر إثارة كان النقد الحادّ لأوروبا. الوثيقة تقول بأن القارة ستُواجه “محوًا حضاريًّا” خلال العشرين عامًا المقبلة، والسبب سياسات الهجرة والقيود المفروضة على حرية التعبير، واعتبرت أن بعض الدول الأوروبية لم تَعُد حليفًا موثوقًا، نتيجة ضعف الاقتصاد والجيش، مع التوصية بوقف توسُّع حلف الناتو.

 

هذه اللغة غير المسبوقة أحدثت صدمةً في العواصم الأوروبية، واعتُبِرَت “صفعة على وجه أوروبا”.

ردود الفعل الأوروبية لم تتأخَّر، جاءت قوية وحاسمة. رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا يقول: إن القارة ترفض أي تدخُّل في الشؤون الداخلية، وإن الديمقراطية الأوروبية ليست مجالًا للمزايدة. ومن ألمانيا، شدَّد المستشار ميرتس على أن أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على الولايات المتحدة.

 

هذه الردود لم تكن لحظية، بل جاءت في سياق مزاج أوروبي يتغيَّر. قبل سنوات، كانت فكرة “الاستقلال الإستراتيجي عن أمريكا” تُطْرَح بخَجَل، اليوم تُطْرَح بقوة. في فرنسا هناك دعوات لتسريع عملية إعادة التسلح لمواجهة التَّحوُّل الواضح في العقيدة العسكرية الأمريكية. وفي ألمانيا، يطالب الساسة بقُدْرة أكبر على اتخاذ القرار بعيدًا عن واشنطن. ومع ذلك، تشعر أوروبا أن الأُسُس القديمة للتحالف عبر الأطلسي بدأت تهتز، وأن الوقت قد حان لحماية المصالح بشكلٍ أكثر استقلالية.

 

وسط هذه التوترات، تظهر الحرب الأوكرانية كأحد أكثر الملفات حساسية. واشنطن وبروكسل تدعمان كييف، ثم جاءت خطة ترامب لتميل نحو المطالب الروسية.

 

الخطة طالبت أوكرانيا بالتخلّي عن أراضٍ واسعة، وخَفْض حجم الجيش، والتراجع عن فكرة الانضمام للناتو، مقابل ضمانات أمنية غير واضحة حتى الآن.

 

هل ينهي ترامب الحرب الأوكرانية؟

أوروبا رفضت الخطة، وكييف استقبلتها بحذر. لكنّ الإدارة الأمريكية مارَسَتْ ضغطًا قويًّا على الرئيس زيلينسكي، وطلبت الرد بسرعة، معتبرةً أن الوقت ضيّق والتحرُّك السريع هو الخيار الوحيد لوقف الحرب.

أسلوب ترامب أدَّى إلى خَلْق ارتباك بين الحلفاء، ما دفَع أوروبا لإعداد خطة بديلة لحفظ ماء الوجه.

 

اللافت هنا أن واشنطن حين تبتعد عن الحلفاء التقليديين، تَقترب من دول كانت أعداء، مثل روسيا والصين. الإستراتيجية الجديدة تجنَّبَت وَصْف روسيا والصين بالقوى المُعادية، أو التهديدات المباشرة، بل ذهبت نحو لغة أكثر واقعية: “إعادة الاستقرار مع روسيا”، و”إعادة التوازن الاقتصادي مع الصين.”

 

هذا التَّحوُّل سبَّب خلطًا على الساحة الدولية. موسكو بَدَتْ مرتاحة أكثر، في حين شعرت أوروبا بالقلق. الصورة لم تَعُد واضحة كما كانت. ومما عقَّد الأمر أن إدارة ترامب سمحت لشركة إنفيديا بتصدير رقائق متطورة إلى الصين، وتم تبرير هذا الأمر على أنه “تنازل اقتصادي لتخفيف التوتر وفتح أسواق جديدة”.

 

وسط كل هذه الانقسامات، هناك ملف واحد ظهر فيه توافق شبه كامل بين أمريكا وأوروبا؛ هو سوريا.

 

هل يلتقي الشرق والغرب في سوريا؟

 

بين كل هذه التحولات، تظهر سوريا اليوم نقطة تلاقي نادرة بين القوى الكبرى، واختبارًا لقدرة النظام الدولي على إنتاج تسويات بدل الصدام. في وقتٍ تتصاعد فيه الخلافات بشأن أوكرانيا وروسيا والصين، تتحول دمشق إلى نموذج يقول: إن التعاون ما يزال ممكنًا، والمصالح المشتركة قد تجمع أعداء الأمس بالرغم ما بينها من شقاق.

 

دمشق نقطة اتصال بين واشنطن وبروكسل

بعد سقوط النظام البائد في ديسمبر 2024، وجَد الغرب لحظة مفصلية لبناء دولة مستقرة في سوريا.  الفرصة كانت لإعادة الإعمار، والتحدّي كان مَنْع سقوط الدولة في فوضى كبيرة، أو أنْ تتحول إلى ساحة صراع إقليمي.

في هذه اللحظة، تراجعت الخلافات، وأدركت واشنطن وبروكسل أن أهدافهما واحدة؛ وهي: “منع موجة لجوء جديدة، محاربة الإرهاب، ووقف النفوذ الإيراني والروسي.”

 

هذا الفَهْم المشترك بين واشنطن وأوروبا أدَّى إلى تنسيق سريع وفعَّال. في مايو 2025، أعلن ترامب رَفْع جزء من العقوبات الأمريكية عن سوريا، في خطوةٍ غير مُتوقَّعة تعكس رؤية عملية لدعم الحكومة السورية لاستعادة الاستقرار. وبعد أيام، رفع الاتحاد الأوروبي معظم العقوبات الاقتصادية عن سوريا.

 

الهدف كان واضحًا؛ يتمثل في جذب الاستثمارات لإعادة إعمار ما دمَّرته الحرب، وتجنُّب انهيار اقتصادي قد يُهدِّد استقرار دمشق. التنسيق لم يَقْتَصِر على الجانب الاقتصادي، بل تدخَّلت الدبلوماسية الأمريكية عند زيادة التوتُّر على الحدود بين سوريا وإسرائيل، وتم التوصُّل إلى تهدئة أولية، مَنَعَت اتساع المواجهة ودخول المنطقة في صراع جديد.

 

هذا التفاهُم قدَّم مثالًا نادرًا على قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على العمل معًا عندما تتقاطع المصالح. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل سوريا مجرد استثناء أم هي بداية لإعادة بناء الثقة المفقودة بين ضفتي الأطلسي؟

 

هل أمريكا حليف موثوق لأوروبا؟

ما يَحْدُث اليوم ليس خلافًا سياسيًّا عابرًا. نحن أمام إعادة تشكيل لطريقة عمل النظام الدولي. إستراتيجية “أمريكا أولاً” ركَّزت على المصالح الأمريكية المباشرة، دَفَعت الحلفاء والخصوم لمراجعة الحسابات. أوروبا وصلت إلى لحظة حاسمة تدرك فيها أن الاعتماد الكامل على الحماية الأمريكية لم يَعُد ممكنًا، وأنّ الوقت قد حان للبحث عن استقلالية أمنية حقيقية.

 

رغم اتفاق واشنطن وبروكسل على أهمية استقرار سوريا؛ إلا إن الخلافات حول أوكرانيا وروسيا والصين ترسم صورةً لعالَم أكثر انقسامًا وأقل قابلية للتنبؤ، عالَم تتراجع فيه التحالفات التقليدية، وتبرز فيه سياسات القوة والمصالح المباشرة.

 

ثم جاء الحدث الأكبر: إلغاء قانون قيصر. هذه الخطوة لم تكن مجرد قرار إداري، بل كانت إعلانًا عن مستوًى غير مسبوق من الشَّراكة مع دمشق، ورسالة سياسية تقول: إن واشنطن ترى في الحكومة السورية طرفًا قادرًا على إدارة المرحلة المقبلة وتحقيق الاستقرار.

 

مع إلغاء قانون قيصر، تُفْتَح القنوات المالية والتجارية بعد سنوات طويلة من إغلاقها. التحويلات المصرفية سوف تُصبح ممكنة، والتجارة بدأت تتحرَّك بشكلٍ تدريجي، وتمويل الصفقات سوف يعود من جديد. هذا الانفتاح يُعيد الحياة إلى السوق السورية، ويُشجّع الشركات على العودة والاستثمار من جديد.

 

بالنسبة للسوق السورية، هذا تطوُّر ضخم: حركة مالية أسهل، انفتاح أكبر، وتشجيع للاستثمارات التي كانت تخشى العقوبات. لكنّ التحدي الحقيقي ليس خارجيًّا، بل هو داخلي. فهل تستطيع سوريا إدارة هذه الفرصة بشكل صحيح؟

 

النجاح هنا يتطلب ضبط الأسواق، تنظيم المؤسسات، تحسين القوانين، وتشجيع الإنتاج المحلي. وفي حال تحقُّق ذلك، من المتوقع أن نشهد تحسُّنًا في سعر الليرة بشكل تدريجي، وينخفض التضخم، وتنشيط قطاعات الإنتاج والتجارة.  وينتج عن ذلك تخفيف الضغط عن المواطن السوري وإعادة الثقة بالاقتصاد.

 

إن سوريا الآن أمام فرصة، وبنفس الوقت أمام اختبار كبير. نجاح الداخل سيُحدِّد شكل المستقبل.

 

مشاركة