شَارِك المَقَال

في القرن الثاني قبل الميلاد، وحين ازدهر “طريق الحرير”، لم تكن دمشق وحلب مجرد مدن على الخريطة، بل كانت مفاتيح لتدفُّق التجارة من آسيا إلى البحر المتوسط. من حلب التي شكَّلَت نقطة تقاطُع القوافل القادمة من الهند والصين، إلى دمشق التي تحوَّلت إلى بوابة للتوزيع عبر الأناضول وسواحل الشام، كانت سوريا قلباً نابضاً في شبكة التجارة القديمة. وكان ميناء اللاذقية ثم طرطوس لاحقاً، هو الرئة البحرية التي تنفَّست بها تجارة الإمبراطوريات، من الصين في الشرق إلى الرومان في الغرب.

 

أهمية ميناء طرطوس

اليوم تعود سوريا لتَضَع قدَمها من جديد على خارطة الربط الاقتصادي العالمي، من “بوابة طرطوس”؛ من خلال اتفاق استثماري ضخم مع واحدة من أكبر شركات تشغيل الموانئ في العالم، يُعِيد رَسْم موقع سوريا الجيواقتصادي في لحظة إقليمية دقيقة.

 

في خطوة تحمل أبعاداً تتجاوز المال واللوجستيات، وقَّعَت سوريا اتفاقية ضَخْمَة مع شركة موانئ دبي العالمية بقيمة 800 مليون دولار أمريكي.

 

الاتفاقية التي أُعْلِنَ عنها رسمياً ليست مجرد مشروع تطوير تقني، بل خطوة إستراتيجية “لتعزيز البِنْيَة التَّحتية والخدمات اللوجستية”، وبوجود مُشغِّل عالَمي مثل موانئ دبي، في واحد من أهم الموانئ السورية، يضع طرطوس على قائمة الموانئ المحورية في شرق المتوسط، ويَمْنح سوريا فرصةً لتحويله من ميناء تقليدي إلى مركز تجاري إقليمي يربط بين الخليج وتركيا وأوروبا.

 

اللافت في كلمة الرئيس التنفيذي لمجموعة موانئ دبي العالمية، عندما قال: “مُقوِّمات الاقتصاد السوري كبيرة، وميناء طرطوس يُعدّ فرصة حقيقية لتصدير الصناعات السورية… وسنرتفع به إلى مكانة عالمية في النقل والتحميل”.

 

بهذا التصريح، نقرأ إستراتيجية ليست مؤقتة، بل قائمة على بناء الثقة بين الموانئ السورية والاقتصاد والتجارة العالمية، بما يضمن قدرة سوريا على تصدير صناعاتها وإحياء تجارتها الخارجية.

 

الموانئ أدوات لفَرْض النفوذ والتأثير

تاريخياً، لم تكن الموانئ مجرد بوابات بحرية، بل أدوات لفَرْض النفوذ والتأثير، وهو ما يعكسه هذا المشروع اليوم؛ فدخول الإمارات، بهذا الحجم من الاستثمار، يَمْنَح سوريا نافذةً جديدةً على الاقتصاد الخليجي، ويَفْتح الباب أمام توازُن جديد في علاقاتها الاقتصادية. بقَدْر ما تُمثِّل هذه الاتفاقية دَفْعة قوية للبِنْيَة التحتية، فإنها أيضاً تُعِيد ترتيب

شبكة العلاقات الإقليمية بوسائل غير سياسية.

 

لكنّ هذا لا يعني أنّ الطريق مفروش بالورود؛ فالاقتصاد السوري بحاجة لوقت ليبدأ الانتعاش، لكنّ بداية المسار من الداخل تعني أن الثقة تُبنَى على أُسُس وطنية، لا على المساعدات أو القروض المشروطة. وهنا تصبح الاتفاقية ليست فقط رقماً مالياً، بل اختباراً لإرادة سياسية واقتصادية لا تزال في طَوْر التَّشكُّل.

 

خلاصة القول: الاستثمار بقيمة 800 مليون دولار في ميناء طرطوس يُعدّ انطلاقةً فعليةً، لكنَّ القوة الحقيقية لمشروع طرطوس تَكْمُن في مدى قدرة سوريا على ترجمته إلى واقع اقتصادي متكامل ومستدام.

 

شَارِك المَقَال