ضرب الجفاف وموجات الحر قارة أوروبا لمرات عديدة قبل الثورة الصناعية بمئات السنين، و”أحجار الجوع” الموجودة في الأنهار الأوروبية كتب الناس عليها رسائل تظهر حجم الكارثة المائية التي مروا بها. ونهر الراين أحد الأنهار التي تعرضت للجفاف لمرات عديدة، حيث كان الناس يعبرون مجراه سيراً على الأقدام.
وأقسى مواسم الجفاف في تاريخ أوروبا حدث في عام 1540، حيث أظهرت الوثائق التاريخية أن المجاعات حصدت أرواح الآلاف، ووصل الأمر ببعض المناطق، كما هو الحال في ترانسيلفانيا الرومانية، إلى مستويات مروعة. حينها، لم يكن مصطلح “التغيُّر المُناخِي” قد ظهر لكنَّ ما حدَث كان بمثابة تحذير للناس من أنَّ الطبيعة قد تتقلَّب في أيّ لحظة.
بعد خمسة قرون، تعود أوروبا لتُواجِهَ واحدةً من أشد موجات الجفاف في تاريخها المعاصر. إذ تشير البيانات إلى أنَّ أكثر من نصف مساحة القارة، بما في ذلك معظم سواحل البحر المتوسط، سجَّلتْ خلال الأيام العشرة الأولى من يونيو أعلى مستويات الجفاف منذُ بَدْءِ عمليات الرصد قبل أكثر من عقد. بهذا، تجاوزت نسبة المناطق المُتأثرة بالجفاف 50%، مقارنةً بمتوسط لا يتجاوز 33% للفترة نفسها بين عامي 2012 و2024.
لم تقتصر الأزمة على اتساع رُقعتها الجغرافية، بل تصاعدت حِدَّتُهَا بشكلٍ لافتٍ في عددٍ من الدول والمناطق؛ حيثُ تجاوزتْ نسبةُ الأراضي المتأثرة بالجفاف في لوكسمبورغ 80%، وأرمينيا 95%، وشمال قبرص 91%، وبلجيكا 91%، وحتى المملكة المتحدة سجلت 84%، أما بلجيكا، فكانت من بين أكثر الدول الأوروبية تضرراً؛ حيث يعاني نحو ثلث مساحتها من درجات جفاف متفاوتة.
بناءً على ذلك، يتضح أن المشكلة تتركز في وسط وشرق وجنوب شرق أوروبا، بالإضافة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد بدأت علامات ضغط مماثل تظهر في شمال وغرب أوروبا، تمثلت في انخفاض تدفق الأنهار، واستنزاف رطوبة التربة، وتزايد الضغط الهيدرولوجي.
تفاقم الجفاف في مناطق واسعة من أوروبا أثار القلق بشأن الزراعة والأنهار والنظم البيئية، لا سيما مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير معتاد وانخفاض هطول الأمطار، ومن ثم تزايد الضغط البيئي في جميع أنحاء أوروبا.
في مطلع أبريل 2025، لوحظ انخفاض كبير في منسوب مياه نهر الراين، وخاصةً في الحوض العلوي، حيث انخفضت مستويات تصريف النهر إلى حدٍّ كبير، وبالتالي تعطل الملاحة على طول نهر الراين الأوسط، مما أثر على طرق النقل والتجارة. وسط توقعات باستمرار انخفاض منسوب مياه الأنهار في أوروبا الشرقية بشكل غير معتاد، مما يفاقم الضغط على الزراعة والطاقة الكهرومائية والنظم البيئية للمياه العذبة.
إذاً امتدت التداعيات الاقتصادية للجفاف إلى قطاع مختلفة منها قطاع الطاقة الذي شهد تراجع إنتاج الكهرباء من السدود الكهرومائية التي تُعد ثالث أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا بعد محطات الغاز الطبيعي والطاقة النووية. لكن الجفاف المستمر أثر على توليد الطاقة الكهرومائية بنسبة 13% خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 مقارنةً بالعام السابق، ليصل إلى أدنى مستوى له في شهر مايو منذ عام 2017.
كذلك تأثَّرتِ السياحةُ، خاصةً في المناطق الساحلية التي باتت تعاني من حرائق الغابات، وتراجُعِ المساحات الخضراء، وانخفاضِ مستوى البحيرات والأنهار. لكنَّ يبقى الأثر الاجتماعي هو الأخطر، مع معاناة بعض القرى في إيطاليا واليونان من شحٍّ حادٍّ في مياه الشرب، واضطرار السلطات إلى إرسال صهاريج يومية لتغطية الحدّ الأدنى من الاحتياجات.
إن ما تُظهره نماذج الطقس من استمرار لظروف أكثر جفافاً من المعتاد حتى يونيو في شمال وغرب أوروبا، بما في ذلك المملكة المتحدة وأيرلندا ودول البنلوكس Benelux (بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ)، هي اتجاهات قد تُشكّل مخاطر جسيمة على غلة المحاصيل، والنظم البيئية المعتمدة على المياه، والصناعات التي تعتمد على النقل النهري.
وبالفعل، بدأت تظهر تأثيرات الجفاف المدمرة في بريطانيا التي سجلت درجات حرارة غير مسبوقة خلال فصل الربيع، ودخلت أكثر من 15% من أراضيها مرحلة الجفاف الحادّ، وضغطت مُؤشرات العطش بقوةٍ على احتياطات المياه، ما أثار قلق المزارعين. وفي خطوة استباقية، دعت النقابات الزراعية إلى تسريع وتيرة الاستثمار في شبكات وخزانات تخزين المياه داخل المزارع.
وفي إسبانيا؛ حيث يعتمدُ الاقتصادُ الزراعيُّ على محاصيل الزيتون والعنب والحمضيات، فقد المُزارعون هذا الصيف نِسَب كبيرة من إنتاجهم؛ بسبب جفاف التربة، وتراجُع تدفُّق الأنهار. كما أعلنت السلطات في جنوب فرنسا، حالة الطوارئ البيئية في خمس مناطق. فيما وضعتْ إيطاليا قيوداً قاسية على استخدام المياه في الشوارع والحدائق والمزارع.
المُفارقة هنا أن هذه الظاهرة لم تَعُدْ تُصنَّف كأزمة طارئة أو موسمية، بل بدأت تأخذ طابعاً بنيوياً، مع تكرارها خلال السنوات الأخيرة، وازدياد حِدّتها عاماً بعد عام، في العديد من الدول الأوروبية.
الخاتمة
هذه التَّغيُّرات قد تَدفع خلال السنوات المقبلة إلى ما يُعرف بـ”هجرة المناخ”؛ حيث يضطر السكان إلى مغادرة المناطق المُتضرّرة باتجاه مناطق يتوفر بها عامل الأمن المائي، خاصة أن الجَفَاف الحالي في أوروبا وحوض المتوسط ليس عارضاً مناخياً عابراً، بل إنذار مُبكِّر لتَحولٍ طويل الأمد في طبيعة المناخ.
فما نشهده اليوم يكشف هشاشةَ البنية البيئية في أوروبا أمام الأزمات، وأن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلَّب إستراتيجيات سريعة وفعَّالة، تبدأ من إدارة الموارد وتنتهي بتغيير نماذج التنمية. وكما أثبت التاريخ، فالماء قد يكون بداية استقرارٍ أو سبب الانهيار.