في الوقت الذي تترقب فيه دول العالم قمةً ساخنة تجمع الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين. وهي القمة المقرر عقدها في يوليو المقبل في دولة أوروبية لم تحدد بعد لمحاولة إنهاء التوتر التقليدي في العلاقات بين القطبين العملاقين. وخصوصاً التوتر الذي تعمق بصورة أكبر مع بدء اندلاع الثورة السورية 2011م. والسؤال هنا: كيف تتأثر مؤشرات الاقتصاد السوري سلباً بتزايد العقوبات الأمريكية على روسيا؟
قبل كل شيء العقوبات الأمريكية على روسيا لم تتوقف منذ فترة. ومؤخراً منعت واشنطن مؤسساتها المالية من الانخراط في السوق الرئيسة للسندات المقوّمة بالروبل الروسي وغير المقوّمة بالروبل. وخاصةً التي صدرت منتصف يونيو 2020م عن “المركزي” الروسي. وفرضت عقوبات على 32 كياناً للضلوع في التأثير على الانتخابات الرئاسية 2020م.
وفي الوقت نفسه العقوبات الاقتصادية على روسيا لم تكن أمريكية فقط. فقد انخرطت دول أوروبية وأستراليا وكندا في محاولة لعزل موسكو دولياً. وفرضت عقوبات على 8 شخصيات وكيانات لاتهامهم بالقمع في شبه جزيرة القرم. في المقابل طردت روسيا دبلوماسيين أجانب من أراضيها. وفرضت عقوبات على 8 مسؤولين أمريكيين بارزين.
بعد هذا التوتر الروسي-الأمريكي والروسي-الأوروبي كانت سوريا “الحليف الأكبر لموسكو” أكبر الخاسرين من هذه العقوبات الاقتصادية. فقد انخفض الدعم الروسي لحكومة دمشق وأجّلت تنفيذ مشاريع جديدة في سوريا. ونتيجة لذلك طالبت حكومة النظام السوري موسكو في سبتمبر الماضي 2020م بزيادة استثماراتها.
الدعم الروسي لسوريا لم يكن عسكرياً فقط منذ عام 2011م بل صاحبه دعم اقتصادي كان متواضعاً قبل هذا التاريخ. فعملت موسكو على ترسيخ علاقات اقتصادية قوية وطويلة الأمد مع النظام السوري. وارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من نحو مليار دولار أمريكي في 2010م لنحو 2 مليار دولار في 2011م.
لا يخفى على أحد أن حكومة النظام تخشى عدم قدرة روسيا على الوفاء بالتزاماتها وتراجعها عن مضاعفة حجم استثماراتها في أراضيها. خاصةً بعد اتفاقية التنقيب عن النفط على شواطئها لـ25 عاماً. واتفاق استخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر. واتفاقية “ترانس غاز” لاستئجار مرفأ طرطوس 49 عاماً.
ما يزيد هذه المخاوف ليس العقوبات الأمريكية على موسكو فقط. وإنما تخشى حكومة دمشق من كون أسواقها لا تزال غير جاذبة للمستثمرين الأجانب حتى الروس منهم. بسبب غياب الاستقرار الأمني والتوترات في الشمال الغربي. واستهداف “داعش” لخطوط نقل الفوسفات التي تستثمرها الشركات الروسية في ريف حمص.
لذلك وقّعت روسيا على اتفاق يقضي بحماية سفنها الحربية لحاملات النفط الإيرانية المتجهة إلى الموانئ السورية منذ 15 أبريل الماضي (2021). الخطوة تأتي بعد استهداف 12 ناقلة بترول تابعة لإيران في العام الماضي 2020 وحده. لكن الولايات المتحدة الأمريكية ردت بفرض عقوبات على سوريا وإيران.
تتعمق مخاوف النظام السوري من تأثر اقتصادها بالعقوبات الأمريكية على موسكو مع كارثة افتقاد دمشق للمنتجات النفطية والقمح. والتي كانت تَرِد للعاصمة بشكل رئيس من الجزيرة السورية. والتي تقع خارج سيطرة النظام. وتُعد مصدر الأمن الغذائي الاستراتيجي للبلاد وبرميل ذهبها الأسود “النفط”.
هنا تثار التساؤلات في سوريا بشأن جدية الدعم الروسي الإيراني لحكومة النظام. خاصةً فيما يتعلق بتأمين الغذاء والمواد النفطية والمحروقات. وهما من أكبر مصدري النفط والغاز العالمي. وفي الوقت نفسه تشهد دمشق أزمات متتالية في ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتوفير النفط يصل صداها بقوة إلى الشارع.
لم تقتصر الاتفاقيات بين الطرفين على الطاقة فقط بل شملت الحبوب والأغذية. حيث أصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير القمح لسوريا. إضافة إلى الاتفاق على بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص بتكلفة نحو 70 مليون يورو. وأصبح القمح “المادة الأساسية لطعام السوريين” بيد روسيا بشكل شبه تام.
لكن في رأيي أن العقوبات الأمريكية الأوروبية على موسكو ورقة ضغط تهدف لإجبار الدب الروسي على التفاوض في مختلف الأزمات العالقة معه. وأنها لن تؤثر بقوة على دولة بحجمها ذات موارد متعددة. ولا ترزح تحت طائلة الديون. وتملك احتياطات تتجاوز 180 مليار دولار بفضل صادراتها الهيدروكربونية.
ونظراً لكون سوريا بلداً صغيراً من حيث الاحتياجات الاقتصادية فإن دمشق لن تتضرر كثيراً. وقد ينطوي الأمر على أمر إيجابي إذا قررت موسكو زيادة الدعم المقدم لحكومة النظام. باعتبار أن الحرب في سوريا خط مواجهة رئيس مع الولايات المتحدة وأوروبا. وستكون سوريا ساحة استعراض مثالي للقوى الروسية.
من جهة أخرى فإن من مصلحة الدب الروسي الحفاظ على صموده داخل سوريا. واستمرار لعب دوره في الحرب الدائرة هناك لأطول فترة ممكنة. للتأكيد على قوته العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. فلن يتنازل عن إرثه في “الكعكة” بسهولة. خاصةً بعدما كلفه دعمه للنظام السوري نحو 442 مليار دولار منذ اندلاع أحداث الثورة.
في نهاية المطاف فإن موسكو ليست مستعدة بالمرة للتخلي عن فرصتها في الهيمنة الاقتصادية على أوروبا. من خلال التراجع عن اتفاقية التنقيب مع سوريا. والتي تُعد جسر المرور لشبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى قارة أوروبا. وستسعى بكامل طاقتها لتنفيذها طوال فترة العقد. بل وتمديد التعاقد لسنوات وسنوات.