في عام 1942، كانت شعوب أوروبا تعاني ويلات الحرب العالمية الثانية، ولم تكن المعاناة محصورة على ميدان المعركة، بل امتدت إلى الوقود والغذاء. واليوم، يُعاد المشهد بعد أكثر من 80 عاماً. فمنذ عام 2022، تتابع الأزمات وتترك بصمتها الضارية على الأسواق العالمية، مما دفع إلى إعادة تعريف مفهوم الأمن الاقتصادي والغذائي كجزء لا يتجزأ من الأمن القومي.
مع بداية عام 2022، شهد العالم تفاؤلاً كبيراً بشأن النمو الاقتصادي في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19، في ظل تقييم إيجابي للناتج المحلي الإجمالي العالمي، والذي كان من المتوقع أن يزيد بنسبة 4.4% في هذا العام. لكن تغيرت هذه النظرة الإيجابية مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من نفس العام.
ظهرت انعكاسات الحرب بين روسيا وأوكرانيا في مجال الطاقة والغذاء. قبل الحرب، كانت أسعار النفط ضمن نطاق سعري يتراوح بين 80 و95 دولارًا أمريكيًا، لتتجاوز 100 دولار للبرميل بعد الحرب، وهو أعلى مستوى لها منذ ما يقرب من 14 عاماً.
كانت أوروبا أبرز المتضررين، فقد واجهت القارة شتاءً صعباً في 2022 بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي، لتقفز أسعاره بأكثر من 200%، ويمتد التأثير إلى الصناعة والتدفئة وحتى النقل، ليتحمل المواطن الأوروبي عبء فاتورة الحرب اقتصادياً واجتماعياً.
ولم تكن هذه الحرب وحدها السبب في هذا الارتفاع، فمع تصاعد أزمة غزة في أكتوبر 2023، قفزت أسعار النفط أكثر من 7%، رغم عدم وجود نقص فِعْلي. مما يؤكد أن الأسواق يحركها المخاوف، وكلما كانت منطقة النزاع قريبة من نقاط العبور العالمية أو مصادر الطاقة، زاد أثرها على الأسعار.
ليس العرض والطلب وحده مَن يحرك الأسعار، فالاعتماد العالمي على عددٍ محدودٍ من الدول لتوفير السِّلع الإستراتيجية يجعل النظام الغذائي العالمي عُرضة لأدنى اضطراب. والهشاشة هنا ليست في الموارد فقط، بل في تمركُّزها الجغرافي، وسهولة تعطيل سلاسل الإمداد.
وفي أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، امتدت موجة الاضطرابات العميقة إلى ما وراء الحدود، مُغرقة العالم في دوامة من التحديات، أبرزها انهيار الأمن الغذائي. فقد أدت الحرب إلى إرباك حركة شحن القمح والأسمدة، نتيجة تغطية كلا البلدين لنحو 30% من صادرات القمح عالمياً. وقد انعكس ذلك على ارتفاع أسعار القمح بأكثر من 20%.
كما تجاوزت أسعار زيوت الطهي 23% في غضون أسابيع، حيث يُنتج أكثر من نصف زيت دوار الشمس في العالم داخل حدودهما. بينما شهدت أوروبا أعلى مستوى لأسعار السكر منذ تسع سنوات، بفعل ارتفاع تكاليف الطاقة.
وتجلى تأثير اعتماد العالم على دول معينة بشكل أكثر حدة في الاقتصادات النامية والناشئة، حيث عانى 258 مليون شخص في 58 دولة من أزمة غذاء أو انعدام أمن غذائي حاد، وهو رقم قياسي.
ورغم زيادة صادرات الأغذية، لا يزال الخلل قائماً في العديد من الدول النامية. فمثلاً، سجلت الأسعار تضخماً في نيجيريا تجاوز 24% خلال مارس 2023، نتيجة التحيز بمبادرة حبوب البحر الأسود، المتوقفة حالياً.
والمبادرة التي تم التوصل إليها في يوليو 2022 بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا، كان الهدف الرئيسي لها هو ضمان التصدير الآمن من الموانئ الأوكرانية إلى الأسواق العالمية. لكن المستفيد الأكبر منها كان الدول الغنية، في حين تلقت البلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل أقل من 20% من هذه الصادرات، ليرسم مفهوم “الغذاء مقابل الأموال” صورة قاتمة لنظام عالمي غير متوازن.
علماً بأن الصراعات الكبرى ليست وحدها من تغير المشهد، فمثلاً، النزاع الحالي في السودان أثّر على مُنتَج “الصمغ العربي” الذي توفر البلاد أكثر من 70% من هذا المكوّن الأساسي في الصناعات الغذائية والدوائية.
يتضح مما سبق أن الأسواق لم تعد بحاجة إلى نقصٍ فِعْلي كي تضطرب، بل يكفي التلويح بصراع جديد. واقتصار مفهوم خسائر الحرب على ميدان المعركة، لم يعد متوافقاً مع المعادلة الاقتصادية. فالحروب تخلف التضخّم، وتُشوِّه سلاسل الإمداد. وإن لم تُحَلّ النزاعات دبلوماسياً، قد نسمع قريباً أن الجوع أصبح القاسم المشترك بين الدول.