السلام عليكم
بعد حرب البلقان مع الدولة العثمانية، والتي بدأت عام 1912م، كانت الإمبراطورية العثمانية على حافَّة الانهيار، الحقيقة هذا الانهيار لم يبدأ بالمدافع، ولا حتى بالانقلابات، بل بدأ بالمال.
لما بدأتِ البنوك الأوروبية تسحب أموالها لم يعد لدى الدولة القُدْرة على دفع رواتب العسكر، ولا تُموِّل المعارك، ولا حتى تسيير مؤسسات الدولة.
السلطنة، اللي كانت لقرونٍ الرجل القويّ في الشرق، أصبحت تُوصَف بـ”الرجل المريض”؛ لأن الأوروبيين بدأوا يتحكموا فيها مو فقط من خلال الاحتلال، بل من خلال الدَّيْن.
بدايةً من منتصف القرن التاسع عشر، دخلت الدولة العثمانية في سلسلة قروض ضخمة من دول أوروبا، لتمويل الحروب والإصلاحات. لكن بسبب الفوائد العالية وسوء الإدارة، تراكمت الديون بسرعة، ووصلت بحلول 1875 إلى نقطة حرجة دفعت السلطنة لإعلان الإفلاس رسمياً.
بعدها بست سنوات، أُجبرت الدولة على توقيع اتفاق كارثي:
“إدارة الديون العثمانية العامة” مؤسسة دولية مقرّها إسطنبول، لكنَّها كانت تحت السيطرة الأوروبية بالكامل.
هذه الإدارة سيطرتْ على دَخْل الدولة، وصارت الإمبراطورية تُموِّل ذاتها بمبالغ بسيطة والتي تسمح بها الدول الدائنة، وأصبحت الموازنات تُقَرُّ في باريس قبل أن تُقَرُّ في إسطنبول!
ولما دَخَلت الدولة العثمانية حرب البلقان سنة 1912، ما كانت بس تحارب جيوش معادية، كانت تحارب أيضاً نَقْص التمويل، ورواتب غير مدفوعة، وإدارة مالية مشلولة. ومن هنا، بدأ السقوط يتسارع.
الدولة التي تفقد السيطرة على أقتصادها وأموالها وثرواتها، تفقد بالتدريج قدرتها على أن تحكم نفسها.
تاريخ الانهيار العثماني أصبح اليوم كتاباً مفتوحاً تقرأه الصين، وتحاول ألا تكرّر نفس الخطأ.
اليوم الصندوق السيادي الصيني أحد أكبر صناديق الثروة في العالم، بدأ ينسحب بهدوء من السوق الأمريكية، مو لأنه عبيخسر بل لأنه يخشى العقوبات الغربية.
والخوف هو أن يتكرّر ما حصل لروسيا بعد غزو أوكرانيا.
لما دخلت روسيا الأراضي الأوكرانية، لم تكن العقوبات التقليدية كافية. الغرب استخدم أقوى سلاح غير عسكري ألا وهو المال. جُمّدت أصول البنك المركزي الروسي بالخارج، أكثر من 300 مليار دولار، ضُرب الاقتصاد من الداخل دون طلقة واحدة.
القادة الصينيون اليوم، يطرحون سؤالاً واحدًا: ماذا لو قرَّرتْ أمريكا في لحظةٍ ما أن تعتبر الصين عدو اقتصادي؟ ماذا لو أصبحت الأموال الصينية لديها رهينةَ السياسة؟ هل ننتظر حتى تتكرَّر الضربة؟ أم نخرج الآن… بصمت؟
الصندوق السيادي الصيني اللي كان يستثمر بمليارات الدولارات في شركات أمريكية، وخاصةً في قطاع التكنولوجيا والملكية الخاصة، بدأ يبيع أصوله تدريجياً.
التقارير تقول أن الصندوق السيادي الصيني خفَّض انكشافه على الولايات المتحدة بنسبة كبيرة، خاصةً صناديق الاستثمار الكبرى مثل “Blackstone”
وهذا التوجّه لم يأتِ من فراغ، منذ ولاية دونالد ترامب الأولى، بدأ التصعيد بين البلدين. وفي الولاية الثانية تم فرض رسوم جمركية ضخمة على السلع الصينية، وشُنَّت حربٌ استثمارية مفتوحة.
بدأ الأمر في 2020م عندما فُرضت العقوبات على شركات كبرى مثل “هواوي”، والضغط على “تيك توك” الذي حظرته المحكمة العليا الأمريكية في 2025م، مع التهديد الدائم بعزل الصين تكنولوجياً ومالياً.
في 2020، أُجبِرت العديد من الشركات الصينية الناشئة على الخروج من السوق الأمريكية، وتم التضييق عليها في الحصول على تمويل من صناديق أمريكية.
كما دفعت قوانين التدقيق المالي الأمريكية عشرات الشركات الصينية إلى الانسحاب القسري من البورصات الأمريكية، من بينها “ديدي DiDi ” و”تشاينا تليكوم”.
والنتيجة؟ انخفضت استثمارات الصين المباشرة في أمريكا إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر منذ 15 عام، وبدأت الأموال يُعاد توجيهها إلى آسيا، الخليج، وإفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط.
وبهذا يمكن اعتبار انسحاب الصين من أمريكا ليست حرب اقتصادية باردة، بل هو إعلان غير مباشر أن عصر الثقة انتهى. الصين لم تَعُد تَرى الأسواق الغربية المكان الآمن لثروتها السيادية.
ثم جاءت التحولات الجيوسياسية متمثلة في أزمة تايوان، تحالفات مثل أوكوس AUKUS، وتحركات الناتو في المحيط الهادئ، كلها رسائل واضحة لبكين: المال لن يكون خارج المعركة، بل هو اليوم جزء منها.
خلاصة الأمر: الصين لم تَعُد تنتظر الضربة، بل بدأت تسحب نفسها بصَمْتٍ، حتى ما تتفاجئ كما فُوجئت روسيا. وهكذا، انسحاب الصندوق السيادي الصيني ليس فقط خطوة مالية، بل هو مقياس لوصول الحذر لأعلى مستوياته. الخوف من أن يتحوّل المال إلى أداة حرب، بدل أن يبقى أداة سلام.
إلى اللقاء
انهيار الثقة بين العمالقة: لماذا تسحب بكين أموالها من واشنطن؟
إنفوجراف
ملخص الحلقة
الصندوق السيادي الصيني بدأ ينسحب بهدوء من السوق الأمريكية؛ خوفاً من أن تُواجه بكين مصيراً مشابهاً لموسكو بعد تجميد أصولها عقب غزو أوكرانيا. انسحاب الصين من أمريكا ليس حرباً اقتصادية باردة، بل هو إعلان غير مباشر أن عصر الثقة انتهى؛ فالصين لم تعد ترى الأسواق الغربية مكاناً آمناً لثروتها السيادية.
#الدين_العثماني
#الاقتصاد_العالمي
#الصندوق_السيادي
#الصين
#العقوبات
#حرب_اقتصادية
#الاستثمار
#تايوان
المصادر
https://www.wsj.com/articles/chinese-companies-leaving-us-stock-markets-under-pressure
https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-08-25/chinese-investment-in-u-s-plummets-under-trump