في كينيا يختلطُ الفقرُ بالمرضِ؛ تفتكُ الملاريا بعشراتِ الآلافِ سنويًّا، ومَنْ يَنْجُ مِنَ المرضِ يَقْتُلْهُ الفقرُ. لحلِّ مشكلةِ الملاريا تمَّ توزيعُ نَامُوسِيَّاتٍ تَحْمِي منَ البعوضِ الناقلِ للمرضِ، لكنَّ المشروعَ فشلَ؛ لأنَّ نسبةً كبيرةً منَ السُّكانِ استخدموا النَّامُوسِيَّاتِ شِبَاكَ صَيْدٍ؛ لأنهمْ كانوا بينَ خيارَيْنِ؛ إمَّا الموتُ بسببِ الملاريا أو الموتُ بسببِ الجوعِ. وهذه النَّامُوسِيَّاتُ لم تكنْ تَصْلُحُ للصَّيِّدِ، لذلكَ تَلَفَتْ بسرعةٍ، والنتيجةُ استمرارُ المشكلةِ وخسارةُ التمويلِ.
اليومَ نِسْبَةُ الفقرِ في العالَمِ مُرتفعةٌ جداً، خاصةً في الدولِ الناميةِ، وللأسفِ لا توجدُ برامجُ فعَّالَةٌ لمُعالَجَةِ هذه المشكلةِ، والأخطرُ هنا هو استمرارُ النظرةِ السلبيةِ للفقراءِ، وأنهمْ غيرُ قادرينَ على الخروجِ منَ الفَقْرِ مهما قُدِّمَ لهم مِن دَعْمٍ، وِجْهَةُ النَّظَرِ هذه غيرُ صحيحةٍ، ولعلَّ أهمَّ مَنْ عَمِلَ على إثباتِ خَطَئِهَا الباحثان الأمريكيان أبهيجيت بانيرجي Abhijit Banerjee وإستر دوفلو Esther Duflo الحائزانِ على جائزةِ نوبل في الاقتصادِ، في كتابهما “اقتصاد الفقراء: إعادةُ نظرٍ في أساليب مُحارَبَة الفقرِ”، الصادر عام 2016م عن دارِ جامعةِ حمد بن خليفة للنَّشْرِ في قطر.
يقولُ الكِتَابُ: إنَّ الصورةَ النمطيةَ التي تربطُ الفقرَ بالكسلِ أو الجهلِ ليستْ صحيحةً. على العكسِ تماماً يستطيعُ الفقراءُ اتخاذَ قراراتٍ ذكيةٍ تمامًا إذا توفَّرَ لهمُ الدعمُ المناسِبُ.
الفقرُ لا يُعالَجُ بالنظرياتِ الاقتصاديةِ، ولا بالوَصْفَاتِ الجاهزةِ، بل يحتاجُ النزولَ إلى الأرضِ، إلى سؤالِ الفقراءِ عن مشاكلهمْ، وهذا ما دعَا إليه كتابُ “اقتصاد الفقراء”، في قوله: “الفقرُ لا يُؤخَذُ فقطْ من خلالِ النظرياتِ الكبرَى، بل يجبُ دراستُهُ منَ الأسفلِ إلى الأعلَى”، بمعنى أنَّ الحلولَ تبدأُ منَ الدراساتِ الميدانيةِ، وليسَ منَ المكاتبِ وأروقةِ الجامعاتِ، كما أنَّ الحلولَ الناجحةَ في مجتمعٍ ما ليسَ بالضرورةِ أن تنجحَ في مجتمعٍ آخرَ، والدليلُ هنا توفيرُ القروضِ للفقراءِ في بنغلادش ساهَمَ بتخفيفِ حدَّةِ الفقرِ، بينمَا تكرارُ نفسِ التجربةِ في الهند وفي المغرب لم يُحقِّقْ النتائجَ ذاتهَا، لذلك منَ الضروريِّ دراسةُ كلِّ مجتمعٍ بشكلٍ منفصلٍ، وتقديمُ حلولٍ تتناسبُ معَ الاحتياجاتِ الفعليةِ.
ذاتُ الأمرِ ينسحبُ على سوريا، نِسْبةُ الفقرِ وَفْقَ بياناتِ الأممِ المتَّحدةِ تتجاوزُ 90%، وحلُّ المشكلةِ لا يمكنُ أنْ يكونَ واحدًا لكلِّ المجتمعِ السوريِّ. الحلُّ المناسِبُ لفقراءِ المُدُنِ يختلفُ عن المطلوبِ لأبناءِ الريفِ، ويختلفُ أيضًا عن أبناءِ الباديةِ. القروضُ مثلاً قد تكون فعَّالةً في المدنِ لكونهَا تُتِيحُ تدشينَ مشروعٍ صغيرٍ، بينمَا مشكلةُ أبناءِ الباديةِ في توفيرِ المياهِ للمواشي، لذلك الحلُّ يكونُ بحَفْرِ آبارٍ وتوفيرِ مَرَاعٍ، وهذا يؤكدُ منْ جديدٍ أنَّ الوَصْفَاتِ الجاهزةَ تعني خسارةَ التمويلِ دونَ تحقيقِ الأهدافِ.
منَ الحلولِ المُقتَرَحَةِ لمُعالَجَةِ الفقرِ: تقديمُ مساعداتٍ إنتاجيةٍ مثلَ ماكيناتِ خياطةِ للنساءِ وغيرهَا، لكنَّ هذه الحلولَ ليستْ فعَّالةً في حالةِ الفقرِ الشديدِ. ففي سوريا وقبل عدةِ سنوتٍ تمَّ شراءِ ماكيناتِ خياطة وأبقارٍ وتوزيعهَا على الفقراءِ، لكنْ معَ انعدامِ الدَّخْلِ اضطرَّ المستفيدون منَ المساعداتِ لبَيْعِهَا؛ لأنَّ الوضعَ لا يسمحُ بالانتظارِ، والحلُّ الأفضلُ كانَ تقديمَ هذه المساعداتِ، وأنْ تترافقَ بمساعداتٍ غذائيةٍ أو ماليةٍ تُعينُ الفقراءَ حتى تبدأَ المشاريعُ بالعملِ. وهذا الأمرُ مُهِمٌّ جدًّا وضروريٌّ لنجاحِ المشاريعِ الصغيرةِ ومتناهيةِ الصِّغرِ المخصَّصَةِ للفقراءِ.
مشكلةُ الفقرِ على مستوَى العالَمِ كبيرةٌ وخَطِرَةٌ، وحَجْمُ المشكلةِ قد يُسبِّبُ الإحباطَ، وإنَّ أيَّ جهودٍ لنْ تتمكَّنْ منْ إيجادِ حلٍّ، والمُساهَمَةُ الصغيرةُ لنْ تكونَ إلَّا قطرةً في دلوٍ، وهذا الدلوُ على الأغلبِ يُسَرِّبُ الماءَ. لكنَّ هذا الاعتقادَ غيرُ صحيحٍ، وهنا يمكنُ الإثباتُ منْ خلالِ تجربةٍ اجتماعيةٍ تمَّتْ في جامعةِ بنسلفانيا في أمريكا؛ حيثُ طُلِبَ منْ مجموعتَيْنِ منَ الطلبةِ أنْ يتبرَّعُوا لصالحِ الفقراءِ، المجموعةُ الأُولَى عُرِضَ عليها منشورٌ يتحدَّثُ عنِ الفقرِ بشكلٍ عامٍّ في بعضِ الدولِ الإفريقيةِ وضخامةِ المشكلةِ. بينمَا المجموعةُ الثانيةُ عُرِضَ عليهَا منشورٌ عنْ طفلةٍ فقيرةٍ في دولةِ مالي، معَ التأكِيدِ على أنَّ المساعدةَ قد تُحسِّنُ حياةَ الطفلةِ.
في النتائجِ تبرَّعَ أفرادُ المجموعةِ الأُولَى بدولارٍ واحدٍ، بينمَا المجموعةُ الثانيةُ تبرَّعُوا بـ 2.8 دولار. والسببُ أنَّ المجموعةَ الأُولَى أصابهُمُ الإحباطُ، وأحسُّوا أنَّهُ لا يمكنُ مُعالَجَةُ المشكلةِ. بينمَا المجموعةُ الثانيةُ أحسُّوا أنَّ المُساهَمَةَ، وإنْ كانتْ بسيطةً، قد تُحْدِثُ فرقًا. وهذا الأمرُ مُهِمٌّ في مُعالَجَةِ الفَقْرِ علَى المستوَى العالَميِّ.
على المستوَى الدوليِّ، تُقدَّمُ مساعداتٌ بملياراتِ الدولاراتِ، لكنَّ قلةَ مِنَ الدولِ التي تتمكَّنُ مِنَ استثمارِ المساعداتِ، رواندا منَ التجاربِ الناجحةِ، استخدمتِ المساعداتِ في تأسيسِ بِنْيَةٍ تَحتيةٍ استوعَبَتِ العِمالةَ، وطوَّرَتْ نظامَ الصحةِ والتعليمِ وغيرِهِ. بينمَا دُوَلٌ أخرى مثل هاييتي، تلقَّتْ أيضًا مُساعَدَاتٍ بعدَ زلزالِ عام 2010م، لكنْ لمْ تَستَفِدْ منهَا بسببِ الفسادِ وسُوءِ الإدارةِ، لذلك كيفيةُ إنفاقِ المساعداتِ يُحدِّدُ إذا كانتْ سلبيةً أو إيجابيةً.
في ثمانينياتِ القرنِ العشرين كانتْ نسبةُ الفقرِ والبطالةِ في بنغلاديش مرتفعةً جداً، ولم يكنْ هناك أيُّ جهودٍ حقيقيةٍ لمُعالَجَةِ هذه المشكلةِ، حينها كانتْ الفكرةُ السائدةُ أنَّ الفقرَ مَصْيَدَةٌ، مَنْ يَعْلَقُ بها لنْ يخرجَ منها، وكانتِ البنوكُ ترفضُ التعاملَ مع الفقراءِ ولا تمنحُهمْ أيَّ قروضٍ، لأنهمْ عاجزونَ عنِ السدادِ. كلُّ هذه الأفكارِ السلبيةِ عن الفقراءِ سقطتْ في تجربةِ البروفيسور محمد يونس، الذي أسَّسَ بنك غرامين في بنغلادش، وهو بنكٌ مُخصَّصٌ للفقراءِ، وبالفعلِ نجَحَ في تخفيفِ حدَّةِ الفقرِ، وأثبتَ أنَّ الفقراءَ يمكنُ أن يخرجُوا منَ المَصْيَدَةِ إذا توفَّرَ لهم الدعمُ الكافي.
مَنْ لمْ يقتربْ منَ الفقراءِ لن يعرفَ معاناتهمْ، ولا يستطيعُ تقديمَ أيِّ مساعدةٍ لهم.
ليو تولستوي أشهرُ أُدَبَاءِ روسيا في القرنِ التاسعِ عشرَ، كانَ منْ أبناءِ الطبقةِ الغنيةِ، وعندمَا كتَبَ عنِ الفقرِ، وُجِّهَتْ له انتقاداتٌ لاذعةٌ، وقِيلَ حينهَا: “الفقرُ عندَ تولستوي أنْ يكونَ الرجلُ فقيرًا وخادمُهُ فقيرًا وسائسُ خَيْلِهِ فقيرًا”، فكيفَ لرَجُلٍ لم يَعِشِ الفقرَ يومًا، ولمْ يَرَ فقيرًا أنْ يُقدِّمَ حلولًا للفقرِ؟!
هذه السخريةُ كانتْ نوعًا منَ الاحتجاجِ على الابتعادِ عنْ مجتمعاتِ الفقرِ، وتقديمِ حلولٍ نظريةٍ لا تُغَيِّرُ شيئًا في الواقعِ. بعدَ أكثرَ مِنْ قرنٍ على حادثةِ تولستوي يبدو أنَّ ذاتِ الخطأِ يُكَرَّرُ، تُقدَّمُ للفقراءِ حلولٌ بعيدةٌ عنِ الواقعِ، تُهْدِرُ المالَ والوقتَ، ولا تُقدِّمُ لهؤلاء أيَّ منفعةٍ.
خلاصةُ الأمرِ: الفقرُ ليسَ مَصْيَدَةً يستحيلُ الخروجُ منهَا، والحلولُ ليستْ بالضرورةِ أنْ تكونَ برامجَ ومشاريعَ عملاقةً، التفكيرُ خارجَ الصندوقِ والحلولُ الذكيةُ قد تُحْدِثُ فَرْقًا، الأهمُّ هو الاقترابُ منَ الفقراءِ وتحديدُ مشاكلهمْ بدقةٍ، وتقديمُ حلولٍ تناسبُ كلَّ مُجتمَعٍ.
إلى اللقاء
كيف نَخْرج من مصيدة الفقر؟
إنفوغراف
ملخص الحلقة
الفقر ليس مَصْيدة يستحيل الخروج منها، والحلول ليس بالضرورة أن تكون برامج ومشاريع عملاقة؛ فالمبادرات الذكية قد تُحْدِث فرقًا. المهم أن تبدأ الحلول من الواقع، والاقتراب من الفقراء ودراسة مشاكلهم، وليس من خلال المكاتب والنظريات الاقتصادية الكلاسيكية.