هناك خطط تُقدَّم للنقاش، وأخرى تُطرَح لتُفْرَض، والخطة التي تُدَار داخل البيت الأبيض بشأن غزة تبدو أقرب للخيار الثاني، فهي خطوة منفردة تُعِيد رسم القطاع بطريقة تُبْقِي الأزمة حيَّة، وتمنع تثبيت الدولة الفلسطينية التي تجمع غزة والضفة في إطار واحد.
الخطة تقوم على تقسيم غزة إلى منطقتين مختلفتين تمامًا؛ الأولى تحت إدارة إسرائيل بشكلٍ مباشر، ويُعاد بناء المنطقة لتقديم صورة عن استقرار مُؤقَّت، بينما المنطقة الثانية مُحاصَرَة، وتبقى تحت سيطرة المقاومة؛ حيث يعيش أكثر من مليوني شَخْص في مساحة ضيّقة بلا خدمات ولا أفق واضح.
هذا الواقع لا يُشْبه أيّ مرحلة انتقالية، ولا يَدْخل في إطار اتفاق سياسي كجزء من حلٍّ شامل، بل هو وَضْع يُفْرَض من طرف واحد، ويلتفُّ بشكلٍ واضح على المرحلة الثانية من اتفاق غزة، التي كان يُفْتَرض أن تبحث إدارة فلسطينية أوسع أو ترتيبات انتقالية برعاية دولية.
من الواضح أن الخطة الجديدة أشبه بمحاولة واضحة لتفكيك القطاع وتحويله إلى “كيانين” منفصلين؛ كل كيان بملامح معيشية واجتماعية مختلفة. خطوة يُرَاد أن تجعل ما يُسمَّى “الخط الأصفر” بمثابة حدود جديدة لقطاع غزة.
في هذه الحالة ستكون المقاومة أمام تحدٍّ أصعب بكثير؛ سوف تتحمَّل إدارة حياة مليونَي شخص في مساحة ضيّقة، بلا خدمات أو بِنْيَة تحتية أو دَعْم دولي، هذا الوضع سوف يَخْلُق ضغوطًا داخلية كبيرة، مع استمرار الضغوط العسكرية والسياسية من الخارج.
وسط هذه الخريطة يقف المواطن في غزة عالقًا؛ فالحياة تُدَار وَفْق “منطق المكان” لا “منطق الحقوق”، ومن يعيش في منطقة الإعمار يخضع لإدارة عسكرية مباشرة من إسرائيل، أما مَن يعيش في المنطقة المُحاصَرة فيعاني من ضيقٍ شديد، والنتيجة هي شعب واحد مقسوم بقرارات خارجية.
القوى الدولية التي تَدْخُل عَبْر الإعمار ستُثَبِّت الواقع الجديد؛ الدعم سيكون للجزء الذي تسيطر عليه إسرائيل، بينما يُتْرَك الجزء الأكبر من السكان لمصير غامض.
حتى الدول العربية ستكون أمام واقع “غزتين” لا قطاع واحد، ما يُعقِّد المشهد. والخطر هنا أنّ التنمية سوف تتحوَّل إلى وسيلة لإدامة الانقسام، بدل أن تكون خطوة للإنهاء.
التقسيم قد يَفتح الباب أمام مرحلة طويلة من التوتر المستمر بلا حلّ؛ مناطق تُعمّر بلا أمان حقيقي، وأخرى تُحاصَر بلا أُفُق أو دعم، هذا الواقع المُؤقَّت قد يَتحوَّل إلى نظام دائم، يُجْبر فلسطين على التفاوض على أجزاء منفصلة بدل التفاوض على وطن واحد.
هذه الخطة، التي تُقدَّم على أنها “حلّ عَملي”، ليست سوى طريقة جديدة لإدارة الأزمة وليست خطوة لإنهاء الصراع. لذلك مواجهة الخطة تتطلب مسارًا موحدًا ورؤية تربط الأرض ضمن جغرافيا واحدة ومصير واحد. وإن لم يظهر هذا المسار، سيُصبح التقسيم الواقع أخطر من الحرب؛ لأنه يَقضي على فكرة الدولة من الجذور.