يكثر في الآونة الأخيرة الحديث عن قضية الديون الخارجية التركية. وغالباً ما يتم تصويرها على أن كارثة اقتصادية حلت بتركيا. وأن عليها تسديد نصف تريليون دولار قبل نهاية هذا العام. فما حقيقة الديون الخارجية التركية؟ وما حقيقة ما يشاع عنها؟
قبل توضيح حقيقة الديون الخارجية التركية وموعد استحقاقها لا بد من توضيح بعض النقاط الرئيسة. فبعض هذه النقاط إما غائبة لقلة الخبرة الاقتصادية أو مغيبة لهدف سياسي. إذ يبلغ إجمالي الدين الخارجي التركي ما يقارب 440 مليار دولار. أما صافي الدين الخارجي فيبلغ 273,9 مليار دولار. فهو حاصل طرح ما لتركيا على الدول الأخرى مما عليها. فالمبلغ الصافي 273,9 مليار وليس 440 مليار.
يعتقد البعض أن هذه الديون مستحقة على الحكومة التركية وهذا ليس صحيحاً. فهي ديون الدولة التركية حكومةً وشركات خاصة. وغالبية الدين لشركات خاصة. فحصة هذه الشركات منه وفقاً لوكالة رويترز 65,4%. وحصة البنك المركزي 11,4%. وحصة القطاع العام 23,2%. فديون القطاع الخاص تُدفع مِن قِبله والحكومة مسؤولة عن حصتها فقط.
بصفة عامة الرقم المعلن عنه للديون يشكل كامل الدين الخارجي. بينما الدين المستحق في نهاية العام يبلغ وفقاً للمركزي التركي 182,5 مليار دولار. حصة القطاع الخاص منه 65,4%. وبحساب بسيط نجد أن حصة الحكومة التركية منه تبلغ 63,1 مليار دولار. وهو أيضاً دين إجمالي وليس صافياً.
في الحقيقة قيمة الدين الخارجي لأي دولة لا معنى له ما لم يقارن بباقي المؤشرات الاقتصادية. فإن صح التعبير يمكن وصفه بالرقم الأعمى. أي لا معنى له بذاته. بل يستمد معناه من مقارنته بالمؤشرات الاقتصادية الكلية. فالديون الخارجية للولايات المتحدة تبلغ 22 تريليون دولار. بما يبلغ 50 ضعفاً من الديون التركية. فهل يجوز القول بأن الاقتصاد التركي أفضل من الأمريكي من ناحية الديون؟!
غالباً ما تقارن الديون الخارجية للدول بالناتج المحلي الإجمالي. فهو يبلغ في تركيا 771 مليار دولار. فالديون الإجمالية للدولة التركية تبلغ 55,7%. بينما الديون الصافية تبلغ 35,4%. وهي أرقام تعتبر منخفضة نسبياً. بمعنى أن الدولة التركية تحتاج لثلث إنتاجها الإجمالي لرد كامل ديونها الخارجية الصافية.
بالإضافة إلى ذلك فإن هذه النسبة تتضح أكثر من خلال مقارنتها مع دول أخرى. وسنختار دولاً متقدمة كي تتضح الصورة. فالولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز ديونها 22 تريليون دولار. بما يشكل 94% من حجم ناتجها الإجمالي. وديون فرنسا 5 تريليون دولار بما يشكل 313% من حجم الناتج المحلي الإجمالي بها.
من جهة أخرى فإن الاقتصاد التركي بدأ يتعافى من تبعات كورونا الاقتصادية. وعلى الرغم من أزمة الليرة التركية فإنه حقق نمواً اقتصادياً في الربع الثالث من العام الحالي فاق به غالبية دول العشرين. فمعدل النمو في الربع الثالث بلغ 6,7% هو رقم مرتفع.
وفي الوقت نفسه لا يقتصر اللغط الحاصل بشأن الدين الخارجي التركي على قيمته واستحقاقه. فالبعض يقول بأن قيمة الدين التركي لألمانيا وحدها يبلغ 130 مليار دولار. وهذا مُنافٍ للحقيقة. فعلى الرغم من عدم وجود بيانات دقيقة حول الدين الحكومي التركي لألمانيا فإن دين القطاع الخاص لا يتجاوز 13 مليار دولار. وفقاً لصحيفة بيرجون التركية.
فيما يخص سداد الدين المستحق فإن دين القطاع العام والبالغ 23,2% تم سدادها عن طريق البنوك المحلية. التي أقرضت الحكومة بالليرة التركية. وبهذا الاقتراض ارتفعت ديون الحكومة للقطاع الخاص المحلي من 91 مليار ليرة في العام الماضي لتصل لـ 236 مليار ليرة هذا العام. وهو ما يفسر سعي الحكومة لعدم رفع أسعار الفائدة.
كما طلبت تركيا جدولة بعض الديون. خاصةً الديون المستحقة لشركات الأدوية الأمريكية والبالغة 2,3 مليار دولار. وبخصوص دين المركزي فقد تم إعداد خطة لطرح سندات بالدولار تتراوح آجالها بين 5–11 سنة. وحتى شهر يوليو الماضي تم إصدار ما قيمته 6,5 مليار والباقي في طور الإصدار.
في الحقيقة فإن الديون الخارجية تعتبر من محاور اهتمام الاقتصاد السياسي. لذلك لا يمكن فصل الدين الخارجي في أي دولة عن علاقاتها السياسية. خاصةً أن توتر العلاقات التركية الأمريكية وفرض عقوبات على الاقتصاد التركي أثر على الاقتصاد التركي وعلى مديونيته. كما أن قضية اللاجئين السوريين وعمليات درع الفرات وغصن الزيتون والملف الليبي أثرت بشكل غير مباشر على المديونية.
إن الديون الخارجية تعتبر من أسس التمويل في ظل النظام الرأسمالي. فالدين ليس خللاً بذاته ما لم يتجاوز نسبة محددة من الناتج المحلي تبلغ 60%. ولهذا نجد أن النظرية النيوكلاسيكية تبرر الدين الخارجي وتراه وسيلة لتعزيز الاستثمار. وهذا ليس تبريراً للدولة التركية. إلا أن النظام الرأسمالي يفرض نمطه على الدول ولا وجود لبديل له حتى اللحظة.
كما أن الجبهات السياسية التي دخلتها تركيا ابتداء من سوريا إلى ليبيا فالقوقاز وغيرها دفعتها لزيادة إنفاقها الخارجي والإنفاق التسليحي. وبالتالي زيادة الدين نتيجة لذلك. فتعدد المحاور الدولية التي تعمل بها الحكومة التركية زاد من حجم إنفاقها وبالتالي دينها الخارجي.
بصفة عامة الدين الخارجي يعتبر من أدوات إدارة العلاقات الدولية في الاقتصاد السياسي. فتركيا تعتمد على ورقة الدين في إدارة علاقتها مع أوروبا. ففي أزمة الليرة عام 2018م وقفت الدول الأوروبية مع تركيا في أزمتها الاقتصادية. لكون تركيا مدينة للبنوك الإيطالية والإسبانية. وبالتالي مساعدتها على عدم التعثر المالي وتمكينها من سداد دينها.
إن تضخيم قضية الدين الخارجي وتصويرها على أنها كارثة اقتصادية. مع أن الديون المرتفعة هي أزمة عالمية مشتركة يعود إما لجهل اقتصادي أو لأسباب سياسية. فيتم تشويه الحقائق الاقتصادية بهدف محاولة التأليب ضد السياسة الاقتصادية للحكومة الحالية.