في عامِ 1980، وخلالَ الحملةِ الانتخابيةِ للرئاسةِ الأمريكيةِ، كانَ في مناظرة بين مرشَّحَي الرئاسةِ، وهم “رونالد ريجان” و “جيمي كارتر”، حينها وصفَ ريجان الوضعَ الاقتصاديَّ في أمريكا بأنَّهُ كسادٌ، لكنَّ كارتر هاجَمَ هذا الرأي، وقالَ: إنَّ الاقتصادَ الأمريكيَّ يمرُّ في ركودٍ وليسَ كساداً. وقتهَا قالَ ريغان المقولة الشهيرةَ: ” إذَا فقَدَ جارُكَ وظيفتَهُ فهذَا ركودٌ، أمَّا إذَا فقدتَ أنتَ وظيفتَكَ فهذا كسادٌ، بينمَا الانتعاشُ عندمَا يخسرُ كارتر وظيفتَهُ”.
الانكماشُ والركودُ والكسادُ مصطلحاتٌ مُهمَّةٌ، تشيرُ إلى تباطؤِ في الاقتصادِ، لكنَّ كلًّا منهَما يشيرُ إلى تباطؤٍ مختلفٍ. يعني إذَا تراجعَ الاقتصادُ بنسبةٍ ضئيلةٍ ولفترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، هنا يُوصَفُ بأنَّهُ انكماشٌ، بينمَا إذا تراجَعَ بنسبةٍ أكبرَ ولمدةٍ أطولَ يُوصَفُ بأنَّهُ ركودٌ. وفي حالِ كان تراجعاً حادّاً ولفترةٍ طويلةٍ تصلُ لسنواتٍ يُوصَفُ بأنَّهُ كسادٌ، والكسادُ يمكن وصفُهُ بأنهُ أزمةٌ اقتصاديةٌ خطيرةٌ.
الانكماشُ والركودُ حالاتٌ اقتصاديةٌ طبيعيةٌ، وهي منْ طبيعةِ الدورةِ الاقتصاديةِ، لأنو المنطق الاقتصادي يقولُ: بعدَ كلِّ انتعاشٍ لا بدَّ وأنْ يأتيَ انكماشٌ أو ركودٌ، وبعدَ كلِّ انكماشٍ أو ركودٍ لازم يأتي انتعاشٌ. وهالشي يسمَّى الدورةَ الاقتصاديةَ الطبيعيةَ، وهيَ مُهِمَّةٌ جدّاً لاتخاذِ القرارِ الاستثماريِّ. يعني إذَا كانَ سوقُ سلعةٍ ما يشهدُ انتعاشاً كبيراً، وخاصةً إذا كانَ السوقُ منتعشاً منذُ مدةٍ طويلةٍ، الأفضلُ عدمُ الاستثمارِ فيه، لأنو بعدَ وقتٍ قصيرٍ ربما يدخلُ في حالةِ انكماشٍ، مثلَ ما صارَ معَ إنتاجِ الأقراصِ المدمجةِ CD، في بدايةِ الألفيةِ الجديدةِ كانَ سوقُ هذه الأقراصِ منتعشاً جداً، لكنْ خلالَ فترةٍ قصيرةٍ تراجَعَ الطلبُ عليهَا، وكلُّ مَنْ دخَلَ هذَا القطاعَ متأخراً خسرَ ولم يُحقِّقْ أيَّ أرباحٍ.
======================================================
العديدُ منَ دُوَلِ العالَمِ اليومَ تُواجِهُ انكماشاً، وهذا مو خطيراً، لكن المطلوب العمل على علاجُهُ مباشرةً، مثلاً الصين حالياً مُهدَّدَةٌ بانكماشٍ اقتصاديٍّ يُقدَّرُ بـ 0.6%، وهذا الأمر مرة أخرى من طبيعةِ الاقتصادِ، ويمكنُ يكونُ بسببِ ارتفاعِ أسعارِ الطاقةِ، أو تراجُعِ الطلبِ، أو خللٍ في سلاسلِ التوريدِ، أو لأسبابٍ أخرى، وغالباً بتكون مدتُهُ أشْهُراً قليلةً، ويمكنُ معالجتُهُ بسهولةٍ، من خلالِ تحفيزِ الطلبِ أو دعمِ الإنتاجِ. وفي الانكماشُ ترتفعُ البطالةُ ولكنْ بنسبةٍ ضئيلةٍ.
الانكماشُ إذَا ما تمَّت مُعالجتُهُ يمكنُ أنْ يتحولَّ إلى ركودٍ، والركودُ أخطرُ منهُ، لكنْ ممكنُ مُعالجتُهُ أيضاً. الركودُ هوَ الحالةُ التي بيتراجعُ فيها النموُّ الاقتصاديُّ لدرجةٍ أكبرَ منَ الانكماشِ، وغالباً بتكونُ مدتُهُ أقلَّ منْ سنةٍ. وفيه تزدادُ البطالةُ، لكنْ تبقَى ضمنَ المعدَّلِ المقبولِ. ومعالجتُهُ تتمُّ من خلالِ تحفيزِ الطلبِ مثلَ دعمِ التصديرِ، وأحياناً يتمُّ خفضُ سعرِ الفائدةِ، بهدفِ تشجيعِ الأفرادِ على الاقتراضِ والاستهلاكِ، لأنو الاستهلاك بيُحفِّزُ الطلبَ، وكمان الاقتراضُ بيُحفِّزُ المنتجينَ على توسيعِ العملِ وزيادةِ الإنتاجِ. لكنْ بشكلٍ عامّ استخدامُ سعرِ الفائدةِ في الركودِ ليسَ شائعاً.
الكسادُ هو تدهورٌ حادٌّ وخطيرٌ في معدلِ النموِّ الاقتصاديِّ، وأحياناً بيأدي إلى تراجُعِ الناتجِ المحلِّيِّ الإجماليِّ بنسبةٍ 10% أو أكثرَ. ويمكنُ يستمرُّ لعدةِ سنواتٍ، وفيه ترتفعُ البطالةُ بشكلٍ حادٍّ، وينخفضُ الإنتاجُ، وتزدادُ نسبةِ الفقرِ، وتتكدَّسُ المنتجاتُ في المستودعاتِ، وتُغلَقُ المصانعُ، وتحدثُ أزماتٌ اجتماعيةٌ، لهيك الكساد يُعدُّ أزمةً حادةً.
علاجُ الكسادِ ليسَ سهلاً، وأحياناً يحتاجُ سنواتٍ حتى تتمَّ معالجتُهُ، وغالباً يعتمدُ على تخفيضِ سعرِ الفائدةِ بدرجةٍ كبيرةٍ، ممكن تصلُ للفائدةِ الصفريةِ، وأحياناً تحتَ الصفرِ. ويتمُّ تخفيضُ الضرائبِ، ودعمُ الإنتاجِ.
=========
الكسادُ الكبيرُ عام 1929م، هو أشهرُ وأخطرُ أزمةِ كسادٍ في التاريخِ، بدأَ في أمريكا وامتدَّ إلى كلِّ دُوَلِ العالَمِ، فَقَدَ أكثرُ منْ رُبعِ العُمَّالِ وظائفَهُمْ، وهذَا يعني أنَّ البطالةَ وصلتْ 25%، الاقتصادُ كانَ يتراجعُ 10% سنوياً، وانخفضتِ الأجورُ بنسبةِ 40%. وانتشرَ الفقرُ، وغالبيةُ المعاملِ أغلقتْ، واستمرَّ 10 سنواتٍ، وبدأت تخفُّ حدَّتُهُ معَ بدايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ عام 1939م.
الكسادُ الكبيرُ هو أخطرُ أزمةٍ اقتصاديةٍ واجههَا العالَمُ حتَّى الآنَ، وكانَ لهَا إسقاطاتٌ سياسيةٌ، وقتهَا كانتِ الشيوعيةُ عم تتوسَّعُ في الاتحادِ السوفييتيِّ، وعم يتمُّ الترويجُ لهَا. وجاءتْ أزمةُ الكسادِ في صالحِ الشيوعيةِ؛ لأنهمْ قالوا أنو الأزمة دليلٌ على ضعفِ الرأسماليةِ، وأنو الحل الوحيد بالتحوُّلِ للشيوعيةِ، لذلك يمكنُ القولُ أنو الكساد الكبير كانَ أحدَ فصولِ الحربِ بين الشيوعيةِ والرأسماليةِ، ولو وقتهَا أمريكا ما قدرتْ تخرُجُ منَ الأزمةِ يمكنُ كانَ شكلُ العالمِ اليوم مختلفاً، لأنو كان ممكن تنهارُ الحكوماتُ الرأسماليةُ ويتمُّ استبدالُهَا بأخرى شيوعيةٍ.
الأزماتُ الاقتصاديةُ دائماً تكونُ صراعاً سياسيّاً مُغلَّفاً بغطاءٍ اقتصاديٍّ، لا يمكنُ أنْ تختلفَ المدارسُ السياسيةُ دونَ اختلافِ المدارسِ الاقتصاديةِ.
الرئيسُ الأمريكيُّ روزفلت، دخلَ البيتَ الأبيضَ عام 1933م، وهو قائدُ جهودِ مُعالَجَةِ أزمةِ الكسادِ الكبيرِ، لذلكَ يُنظَرُ لهُ علَى أنَّهُ مُنقِذُ الرأسماليةَ منَ السقوطِ الاقتصاديِّ.
الأزماتُ الاقتصاديةُ الحادةُ غالباً ما تنتهي بصراعاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ، أزمةُ الكسادِ الكبيرِ كانتْ أحدَ الأسبابِ غيرِ المباشرةِ للحربِ العالميةِ الثانيةِ، لأنهُ وبعدَ الخروجِ منَ الأزمةِ، كانتْ دُوَلُ أمريكا وأوروبَا بحاجةٍ كبيرةٍ للمواردِ، لتحفيزِ الاقتصادِ، لذلكَ كانتِ الحربُ بهدفِ السيطرةِ على المواردِ.
الأزمةُ الماليةُ العالميةُ وهيَ أزمةُ الرهنِ العقاريِّ اللي صارتْ عام 2008م، كانتْ أزمةَ كسادٍ حادَّةٍ، واستمرَّتْ عدةَ سنواتٍ، لكنْ لمْ تصلْ لحدَّةِ أزمةِ الكسادِ الكبيرِ عام 1929م. الفكرةُ أنو العالَم وبشكلٍ مُستمِرٍّ عم يتعرضُ لأزماتِ كسادٍ، والسببُ أنو الانكماش عم يتطوَّرُ لركودٍ ولاحقاً إلى كسادٍ، وهالشي رح يستمرُّ مستقبلاً؛ لأنَّهُ منْ طبيعةِ النظامِ الاقتصاديِّ الدوليِّ، وغالبيةُ الأزماتِ عم تكونُ بسببِ سوءِ إدارةٍ منَ الدولِ الكبرى، أزمةُ الكسادُ الكبيرُ وأزمةُ الرهنِ العقاريِّ بدأوا منْ أمريكا، لكنَّ العالَمَ كلَّهُ عانَى منهما، والسببُ الجوهريُّ هوَ الرغبةُ في الربحِ الفاحشِ مِنْ قِبَلِ كُبْرَى المؤسساتِ الماليةِ العالميَّةِ. وبالتأكيدِ هذَا مُنَافٍ للعدالةِ، لأنو المنطق يقولُ: منْ يتسبَّبُ بالأزماتِ هوَ مَنْ يتحمَّلُ تَبِعَاتهَا. لكنْ في ظلِّ النظامِ الاقتصاديِّ الحاليِّ، العالَمُ كلُّهُ يتحمَّلُ أخطاءَ الدولِ الكبرَى، والرغبةُ في الربحِ الفاحشِ يدفعُ ثمنهَا الجميعُ حتَّى الفقراء.
ولكنْ وعلَى الرغمِ منْ سُوءِ النظامِ الاقتصاديِّ الحاليِّ، لكنَّ تغييرَهُ غيرُ ممكنٍ، لأنو تغييره يعني تغييرَ النظامِ السياسيِّ العالَميِّ، وهالشي غيرُ ممكنٍ في المدَى المنظورِ.