مشاركة

فِي عَامِ 1973 بدأت حَرْبُ تِشْرِين بَيْنَ مِصْرَ وَسُورْيَا مِنْ جِهَةٍ، وَإِسْرَائِيلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. اَلْمَعْرَكَةُ لم تكن مُجَرَّدَ مُوَاجَهَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ، خلال أيامٍ تحوَّلتْ لصراعٍ دوليٍّ، بعد ما قرَّرت الدُّوَلُ الْعَرَبِيَّةُ المُصَدِّرَةُ لِلنَّفْطِ وَقْفَ التصَّديرِ إلى الْوِلَايَاتِ اَلْمُتَّحِدَةِ وَأُورُوبَّا. 

وهنا شاهد العالم كيف اِرْتَفَعَتْ أَسْعَارُ اَلطَّاقَةِ، وكيف وقفت اَلسَّيَّارَات فِي طَوَابِيرَ طَوِيلَةٍ أَمَامَ مَحَطَّاتِ اَلْوَقُودِ مِنْ نِيويُورك إِلَى بَارِيس. 

في هذه اللحظةِ ظهَرَ الدورُ الحقيقيُّ للنفطِ، وكيف أمكن لهذه السلعة من تعطيل اِقْتِصَادِيَّاتٍ دول كُبْرَى. وهنا ظهرتْ أدوات وشركات جديدة لها دور في العلاقاتِ الدوليةِ، أطراف جديدة ليست دُوَل وَلَا جُيُوش، بَلْ شَرِكَات قَادِرَة عَلَى التَّحكُّم في اَلْأَزَمَات. مِنْ وَقْتِهَا أَصْبَحْنَا نَسْمَعُ عَنْ شَرِكَاتٍ خَاصَّةٍ تسيطر على الموارد: مِنَ اَلنَّفْطِ وَالْغَازِ إِلَى اَلْحُبُوبِ وَالْمَعَادِنِ.

هَذِهِ اَلْفِكْرَةُ طَرَحَهَا كِتَابُ (اَلْعَالَمُ لِلْبَيْعِ) لِلصَّحَفِيَّيْنِ خافيير بلاس وجاك فاركي  Javier Blas and Jack Farke. اَلْكِتَابُ يُقَدِّمُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ صُورَةً عَنْ عَالَمٍ شِبْهِ خَفِيٍّ: عَالَمُ شَرِكَاتِ اَلتِّجَارَةِ اَلْعِمْلَاقَةِ اللي يكاد ما بيَعْرِفُهَا أَغْلَبُ اَلنَّاسِ، لَكِنَّهَا تَتَحَكَّمُ فِعْلِيًّا بِمَصِيرِ أهم وأبرز اَلْمَوَارِدِ.

في رُوسْيَا. وَبَعْدَ غزو أوكرانيا عَام 2022، حاولت أُورُوبَّا اَلِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اَلْغَازِ اَلرُّوسِيِّ. لَكِنَّ شَرِكَاتِ اَلتِّجَارَةِ اَلْعَالَمِيَّةِ لعبتْ دَوْر مهم في اِسْتِمْرَارِ تَدَفُّقِ اَلطَّاقَةِ رَغْمَ اَلْعُقُوبَاتِ. 

هَذِهِ اَلشَّرِكَاتُ وَجَدَتْ طُرُق بَدِيلَة لِشِرَاءِ اَلْغَازِ وَالنَّفْطِ؛ بحيث يَتِمُّ تَخْزِينُهُ، ثُمَّ إِعَادَةُ بَيْعِهِ عَبْرَ مَوَانِئَ مختلفة. وهنا بنلاحظ كَيْفَ انو مَصَالِحَ وَأَرْبَاحَ الشَّرِكَاتِ الكُبْرَى قَادِرَةٌ عَلَى تَجَاوُزِ خُطُوطِ اَلسِّيَاسَةِ وَالْعُقُوبَاتِ.

روسيا ليست الوحيدة. فِي إِفْرِيقِيَا، دُوَل مِثْلَ الكُونْغُو تَمْلِكُ ثَرَوَاتٍ هَائِلَةً مِنَ اَلْكُوبَالَتِ وَالْمَعَادِنِ اَلنَّادِرَةِ، وَهِيَ أَسَاسِيَّة لِصِنَاعَةِ اَلْبَطَّارِيَّاتِ وَالسَّيَّارَاتِ اَلْكَهْرَبَائِيَّةِ. وَمَعَ ذَلِكَ، اَلْبَلَدُ يَعِيشُ حُرُوب أَهْلِيَّة وَفَقْر شديد. واَلْمُسْتَفِيدُ اَلْأَسَاسِيُّ هُمْ تُجَّارُ اَلسِّلَعِ وَشَرِكَاتُ اَلتَّعْدِينِ.

نفس الشيء يَتَكَرَّرُ فِي اَلشَّرْقِ اَلْأَوْسَطِ، اَلْعَدِيدُ مِنَ اَلسِّلَعِ كَانَتْ أَدَاةَ نُفُوذٍ خِلَالَ التِّسْعِينِيَّاتِ. فِي اَلْعِرَاقِ بَعْدَ فَرْضِ اَلْعُقُوبَاتِ اَلدَّوْلِيَّةِ، صَارَ اَلنَّفْطُ يُصَدَّرُ عَبْرَ بَرْنَامَجِ “اَلنَّفْط مُقَابِل اَلْغِذَاءِ”، وَصَارَ اَلْخُبْزُ وَالطَّحِينُ وَالْمَحْرُوقَاتُ أَدَوَاتٍ لِلضَّغْطِ اَلسِّيَاسِيِّ. 

وَفِي اَلْيَمَن، اِنْقَطَعَتْ طُرُقُ اَلْإِمْدَادِ اَلْغِذَائِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَكَانَ اَلْوُسَطَاءُ اَلدَّوْلِيُّونَ يتحكمون بِمُرُورِ اَلشِّحْنَاتِ. 

الفكرة هنا أن اَلْحِصَارَ اَلِاقْتِصَادِيَّ لا يقف عِنْدَ حُدُودِ اَلِاقْتِصَادِ، بَلْ يصبح أَدَاة لِإِعَادَةِ رَسْمِ مَوَازِينِ اَلْقُوَى عَلَى اَلْأَرْضِ؛ بِحَيْثُ يَتَحَكَّمُ اَلْخَارِجُ بِحَاجَاتِ اَلدَّاخِلِ اَلْأَسَاسِيَّةِ. 

نَفْسُ اَلسِّينَارْيُو نجده اليوم فِي غَزَّة الجريحة، لمّا أَصْبَحَتِ اَلْكَهْرَبَاءُ وَالْوَقُودُ وَالدَّوَاءُ أَدَوَاتِ مُسَاوَمَةٍ وَضَغْطٍ تُمْنَعُ عَنِ اَلْمَدَنِيِّينَ كَوَسِيلَةِ عِقَابٍ جَمَاعِيٍّ. وهذا الشي بيأكد إنو اَلسِّلَعَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُنْتَجَاتٍ اِسْتِهْلَاكِيَّةٍ، بَلْ هِيَ عَنَاصِرُ قُوَّةٍ وَصِرَاعٍ تُحَدِّدُ مَصِيرَ ومستقبل شُعُوبٍ.

في جَائِحَةِ كُورُونَا عام 2020، أَصْبَحَتِ اَلسِّلَعُ اَلْأَسَاسِيَّةُ مُحَرِّك عَالَمِي. مِنَ اَلنَّفْطِ اللي اِنْهَارَتْ أَسْعَارُهُ فَجْأَةً، لشِحْنَاتِ اَلْغِذَاءِ وَالْمُعَدَّاتِ اَلطِّبِّيَّةِ اللي أَصْبَحَتْ سَاحَةَ تَنَافُسٍ دَوْلِيٍّ. لَكِنْ وَسْطَ كُلِّ هَذَا اَلِارْتِبَاكِ، بَقِيَتْ بعض الشَرِكَاتُ تُحَقِّقُ أَرْبَاح ضَخْمَةً.

إِذَا بحثنا في بالْعُمْقِ، بنشوف انو هذه اَلشَّرِكَاتِ لَا تجد نَفْسَهَا كَأَطْرَافٍ سِيَاسِيَّةٍ، لَكِنَّهَا عَمَلِيًّا تُصْبِحُ جُزْء مِنَ اَللُّعْبَةِ الْجِيُوسِيَاسِيَّةِ. هِيَ تَعْمَلُ بِالْمَنَاطِقِ اللي بتَعْتَبِرُهَا اَلْحُكُومَاتُ وَالْأَنْظِمَةُ مَحْفُوفَةً بِالْمَخَاطِرِ، وَبتَعْرِفُ كَيْفَ تُوَازِنُ بَيْنَ اَلْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، بَيْنَ اَلْعُقُوبَاتِ وَالْفُرَصِ. وَبِهَذَا اَلْمَعْنَى، هِيَ مِثْلُ تُجَّارِ الحروب، لَكِنْ لا تحارب باَلسِّلَاحِ وانما بتستخدم اَلنَّفْطِ وَالْقَمْحِ وَالْمَعَادِنِ.

 وَإِذَا قرأنا أكتر فِي كِتَابِ “اَلْعَالَم لِلْبَيْعِ”؛ نَجِدُ أَنَّ الكتاب لا يوثق أَحْدَاث جَانِبِيَّة، إنما صِنَاعَة كَامِلَة تُمَثِّلُ اَلْعَمُود اَلْفِقْرِي لِلِاقْتِصَادِ اَلْحَدِيثِ. 

اَلْكِتَابُ يَكْشِفُ قِصَصَ أَسْمَاءَ وَشَرِكَاتٍ كثيرة وكَيْفَ دخلت فِي صَفَقَاتٍ مَشْبُوهَةٍ، وَشِحْنَاتٍ مَسْمُومَةٍ، وَهُوَ مَا يَعْكِسُ مَدَى اِسْتِغْلَالِ هَذِهِ اَلشَّرِكَاتِ اَلْكُبْرَى لِلْأَوْضَاعِ اَلِاقْتِصَادِيَّةِ لِتَحْقِيقِ أَكْبَرِ نِسْبَةِ أَرْبَاحٍ مُمْكِنَةٍ.

عَمَلِيًّا هَؤُلَاءِ اَلتُّجَّارُ لَيْسُوا مُجَرَّدَ وُسَطَاءِ، بَلْ هم لَاعِبُونَ أَسَاسِيُّونَ يُدِيرُونَ مَوَارِدَ اَلْأَرْضِ مِنْ وَرَاءِ اَلسِّتَارِ. 

وهنا نقف أَمَامَ سُؤَالٍ كَبِيرٍ: إِذَا كَانَ بعض اَلتُّجَّارِ قَادِرين عَلَى التَّحَكُّمِ فِي تَدَفُّقِ اَلسِّلَعِ اَلْأَسَاسِيَّةِ، فَمَنْ يُمْسِكُ بِزِمَامِ اَلْعَالَمِ؟ هَلْ هِيَ اَلْحُكُومَاتُ اَلْمُنْتَخَبَةُ، أَم اَلشَّرِكَاتُ اَلْعِمْلَاقَةُ اَلَّتِي وَظِيفَتُهَا اَلْأُولَى اَلرِّبْحُ حَتَّى لَوْ عَلَى حِسَابِ اَلشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ؟

خُلَاصَةُ اَلْأَمْرِ: اَلسِّلَعُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُنْتَجَاتٍ اِسْتِهْلَاكِيَّةٍ، بَلْ أَدَوَات نُفُوذٍ تَعْكِسُ تَدَاخُلَ اَلِاقْتِصَادِ بِالسِّيَاسَةِ. فَاَلسَّيْطَرَةُ عَلَى اَلْغِذَاءِ وَالطَّاقَةِ تَفْتَحُ المَجَال لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ مَوَازِينِ اَلْقُوَى؛ بحَيْثُ تُسْتَخْدَمُ اَلْمَوَارِدُ كوَسِيلَةً لِلضَّغْطِ وَالِابْتِزَازِ بَدَلاً مِنْ أَنْ تَبْقَى مُجَرَّدَ حَاجَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ؛ وهو ما تفعلُه الشركات العملاقة كما يقول الكتاب.

فِي اَلنِّهَايَةِ، اَلسِّلَعُ قد تتحول في لحظة من اللحظات إِلَى لُغَةِ صِرَاعٍ، تَجْعَلُ مِنَ اَلِاقْتِصَادِ جَبْهَةً مُوَازِيَةً لِلْمَعَارِكِ اَلتَّقْلِيدِيَّةِ، هناك حيث تُدَارُ رِهَانَاتُ اَلنُّفُوذِ عَلَى حِسَابِ اَلِاسْتِقْرَارِ اَلْإِنْسَانِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ.

مشاركة



عن المقال

  • يحيى السيد عمر