في الحقيقة يعد سعر الذهب أحد أهم المؤشرات التي توضح واقع ومستقبل الاقتصاد العالمي. كما أن المستثمرين يعتمدون على تغير سعره في تحديد خياراتهم الاستثمارية. ومن الملاحظ في السنوات القليلة الفائتة وجود تذبذب حاد في سعره. كما تشير البيانات إلى تغيره بتغير عدة مؤشرات. منها سعر الفائدة الأمريكي. وهو ما يقود لضرورة تحديد العلاقة بين هذين المؤشرين الاقتصاديين.
سابقاً وبعد اتفاقية بريتون وودز عام 1944م تم تحديد سعر ثابت للذهب. وكانت أونصة الذهب تعادل 35 دولاراً. واستمر هذا الأمر حتى عام 1971م. حيث تم فك الارتباط بين الذهب والدولار بقرار من الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. وهو ما عُرف بصدمة نيكسون.
بعد صدمة نيكسون وحتى الآن أصبح تسعير الذهب يتم وفقاً لقوى السوق. وهو ما يسمى بالتسعير الحر. أي بالاعتماد على الطلب والعرض العالميين على الذهب. هذا من ناحية المبدأ العام. لكن الطلب والعرض على الذهب يتأثران بجملة عوامل اقتصادية وسياسية. ومن العوامل الاقتصادية التي تؤثر عليه بشكل مباشر سعر الفائدة الأمريكية.
في الواقع يمكن وصف العلاقة بين سعر الفائدة الأمريكية بالذهب بالعلاقة البسيطة والمعقدة في ذات الوقت. وبساطتها تظهر من خلال وضوح تأثير تغير سعر الفائدة على عرض الذهب وطلبه. أما التعقيد فيظهر من خلال وجود عوامل عديدة تؤثر على هذه العلاقة. وفي مقدمتها التضخم العالمي والحالة السياسية العالمية.
في الحالة الطبيعية. -ويقصد بها استقرار الاقتصاد العالمي بحيث لا يوجد تضخم مرتفع ولا مخاطر ركود- تكون العلاقة بين سعر الفائدة والذهب علاقة عكسية. بمعنى أنه كلما ارتفع سعر الفائدة انخفض سعر الذهب. والعكس صحيح.
تفسير العلاقة العكسية بين سعر الفائدة الأمريكية والذهب تستند على معدل العائد. فعند رفع سعر الفائدة ترتفع عوائد السندات وترتفع العوائد على الإيداعات المصرفية. وبالتالي يزداد الطلب على الدولار لإيداعه في المصارف طمعاً بسعر الفائدة المرتفع. وهنا يقوم المستثمرون باستبدال الذهب بالدولار. فيزداد عرض الذهب في السوق وينخفض الطلب عليه وبالتالي ينخفض سعره.
لوحظت هذه الحالة في رفع سعر الفائدة الأمريكية الحالي. فعند رفعها عدة مرات انخفض سعر أونصة الذهب من 1900 دولار إلى 1620 دولار.
أما في حالة تخفيض سعر الفائدة فإن عوائد السندات تنخفض. وكذلك عوائد الإيداعات المصرفية. وهنا يقوم غالبية المستثمرين بالتخلي عن السندات والدولار لحساب الذهب. وهنا يزداد الطلب عليه ويرتفع سعره.
العلاقة العكسية بين سعر الفائدة والذهب تعد الشكل الأبسط والأسهل للفهم. لكنها ليست دائماً بهذه البساطة. فوجود مؤشرات اقتصادية أخرى قد يعدل من شكل العلاقة. فبوجود التضخم يتغير شكل العلاقة من عكسي إلى طردي. بمعنى أنه في ظل التضخم كلما ارتفع سعر الفائدة الأمريكية ارتفع سعر الذهب.
إن رفع سعر الفائدة لمعالجة التضخم يسعى للحد من الطلب. من خلال تحفيز الأفراد والشركات على الإيداع في المصارف طمعاً بالعائد الناتج عن سعر الفائدة المرتفع. لكن هذا الهدف قد لا يتحقق في حال كان معدل التضخم أعلى بفارق كبير عن معدل سعر الفائدة.
فعلى سبيل المثال إذا كان لديك ألف دولار. وأودعتها في البنك بسعر فائدة 5%. فإن المبلغ سيصبح بعد عام 1,050 دولاراً. وهذا يعني أنك كسبت 50 دولاراً. ولكن إذا كان معدل التضخم 8% فإن قيمة المبلغ ستفقد 80 دولاراً. ففي ظل هذا الواقع ستكون كسبت 50 دولاراً وخسرت 80 دولاراً. والمحصلة النهائية أنك خسرت 30 دولاراً.
هذا المثال البسيط يوضح بدقة كيفية تأثير سعر الفائدة على المدخرات في ظل الواقع العالمي الحالي. لذلك عند قيام الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة لن يقدم المستثمرون على الإيداع في البنوك. فالتضخم أعلى من سعر الفائدة. وهنا ولحماية مدخراتهم من تآكل القيمة نتيجة ارتفاع التضخم يلجؤون إلى استبدال الدولار بالذهب.
قيام المستثمرين باستبدال الدولار بالذهب يؤدي إلى زيادة الطلب على الذهب. وهو ما يؤدي إلى ارتفاع سعره. وهذا ما لوحظ مؤخراً في سعر الذهب. فعقب رفع سعر الفائدة ارتفع سعر الذهب من 1650 دولار للأونصة إلى 1800 دولار. وسبب ذلك خشية المستثمرين من تأثير التضخم على أموالهم.
لا تقتصر العوامل المؤثرة على العلاقة بين سعر الفائدة والذهب على التضخم. فهناك عوامل عدة تلعب دوراً في شكل العلاقة واتجاهها. منها عوائد السندات الأمريكية. ومؤشرات الاقتصاد الأمريكي كمعدل البطالة وبيانات التوظيف وغيرها.
كما تلعب التوترات السياسية دوراً في شكل هذه العلاقة. ففي ظل التوترات ومخاطر الحروب يتجه المستثمرون إلى الذهب لكونه الملاذ الأكثر أمناً. وهو ما يرفع الطلب عليه وبالتالي يرتفع سعره.
إن دراسة العلاقة بين سعر الفائدة الأمريكية والذهب تتطلب النظر لتاريخ العلاقة بالكامل منذ عام 1971م حتى الوقت الراهن. فدراسة مرحلة محددة وتعميمها على كامل تاريخ العلاقة يعد خطأً منهجياً. فالدقة تتطلب دراسة تاريخ العلاقة بكامل تفاصيلها.
خلال الرفع الحالي لسعر الفائدة الأمريكي شهد سعر الذهب انخفاضاً في البداية. ولاحقاً شهد ارتفاعاً. فاعتماد أي من هاتين الحالتين بشكل منفرد سيقود لنتائج مغلوطة. وهذا ما يؤكد ضرورة النظر لتاريخ العلاقة بالكامل.
إن المستقبل الحالي لسعر الذهب يتحكم به عدة مؤشرات. منها اتجاه سعر الفائدة الأمريكي. ومعدل التضخم. واحتمالات الركود. ومستقبل أسعار النفط. ومستقبل الصراع في أوكرانيا. واحتمالات حرب تجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية مع كل من الصين وأوروبا. ولكن الاحتمالات الأرجح هي تراجع الذهب لحدود 1600 دولار في حال عدم ظهور متغيرات جديدة.