مشاركة

في عالَمٍ تتسارع فيه التغيرات، وَضَعت إدارة الرئيس ترامب إستراتيجية جديدة للأمن القومي؛ جعلت أوروبا محور اهتمام مختلف تمامًا. بعد عقود من الاعتماد المتبادَل، لم تَعُد أوروبا تنظر للأمن بنفس النظرة التقليدية، بل أصبحت شريكًا مُكلَّفًا بمسؤوليات أكبر في الدفاع وحماية المصالح، بينما تتَّجه واشنطن نحو تحديات عالمية أخرى.

 

هذا التحوُّل يعكس إعادة تفكير عميقة في العقل الإستراتيجي الأمريكي، ويَطرح سؤالًا مُهِمًّا عن قدرة أوروبا على الحفاظ على مكانتها في عالَم سريع التغيُّر ومتغير القوى.

 

أول ما يظهر من هذه الرؤية هو رغبة أمريكية في تَرْك الدول الأوروبية تتحمَّل جُزءًا أكبر من أعباء الدفاع داخل حلف الناتو. الإدارة الأمريكية ترى أن بعض الدول الأوروبية تعتمد على المظلة العسكرية الأمريكية دون أن تُضِيف الكثير للقوة الدفاعية، لذلك تَضْغط واشنطن على الشركاء لتعزيز مساهمة كل دولة في الدفاع. هذا الضغط ليس فقط لتخفيف النفقات الأمريكية، بل أيضًا لأن واشنطن تُريد أن تُركّز على التحديات التي ترى أنها أكثر أهميةً خارج أوروبا.

 

هذا التَّحوُّل أيضًا يرتبط بإعادة ترتيب نفوذ الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، واشنطن لم تَعُد تَعتبر أوروبا الركيزة الأساسية للتحالف، بل ترى أنها يجب أن تتحمَّل مسؤولية أكبر عن الأمن. وفي نفس الوقت، تُركّز الولايات المتحدة على التحديات العالمية الأكثر تأثيرًا، مثل صعود الصين في الاقتصاد والتكنولوجيا، وتحركات روسيا في شرق القارة. حين تُركّز أوروبا على المخاطر التقليدية، ترى واشنطن أن الصراع الرئيسي أصبح في آسيا والمحيط الهادئ، وأن الانشغال الكامل بالقارة الأوروبية يَحُدّ من القدرة على مواجهة هذه التحديات بفعالية.

 

لكن الأمر لا يقتصر على المال أو الجيوش، بل يمتدّ إلى الثقة بين الجانبين؛ فالعلاقة التي كانت مبنية على تعاون دائم بدأت تشهد توترًا، خاصةً في ملفات مثل روسيا والطاقة والتجارة. واشنطن تتساءل اليوم: هل تستطيع العواصم الأوروبية مُواكَبة التَّحوُّل الأمريكي، أم أنها مُتمسكة بأساليب قديمة لم تَعُد مناسبة للواقع الجديد؟

 

من منظور أوروبا، هذا الوضع يخلق تحدِّيًا كبيرًا؛ فهي لا تستطيع بناء دفاع مستقل، لكن أيضًا لا تستطيع التخلي عن المظلة الأمريكية في ظلّ التهديد الروسي المتواصل والتَّغيُّر العالمي. وهذا يضع القارة أمام معادلة صعبة: كيف تتعامل مع شريك لم يَعُد يضع أوروبا في الأولوية بنفس الطريقة؟

 

مع صعود الصين وعودة روسيا إلى المسرح الدولي، يتَّضح أن إستراتيجية ترامب ليست مجرد ضَغْط عابر على الحلفاء، بل خطوة لإعادة ترتيب الأولويات عالميًّا. فالرسالة واضحة: أوروبا لم تَعُد مركز العالم كما كانت، والأولويات الأمريكية انتقلت إلى مناطق أخرى تتطلَّب تركيزًا أكبر.

 

في النهاية، تكشف إستراتيجية ترامب عن تحوُّل عميق في طريقة تفكير الولايات المتحدة تجاه أوروبا، فالقارة مُطالَبة اليوم بإعادة تقييم مكانة أوروبا، وإلا ستبقى مُتلقّية للتوجه الأمريكي بدل أن تكون طرفًا فاعلًا في توجيه الأحداث. وبين كلّ ذلك، أوروبا أمام خيار صَعْب، إما تعزيز القدرات واستعادة الموقع أو البقاء تحت تأثير قرارات خارجية تُحدِّد شكل الأمن ومسار التطوُّر.

مشاركة