في عام 1937، اشتعل الحُلْم واحتَرَق في السماء. كانت طائرة “هايدنبرج” الألمانية، أول مَن حاول الطيران بالهيدروجين الغازي، لكنَّها انفجرت أمام عدسات العالم، فأغلقت أبواب الأمل، وتراجع الحديث عن هذه الطاقة لعقودٍ؛ خوفًا من تكرار الكارثة.
منذ ذلك الحين، لم تُذْكَر كلمة “هيدروجين” في صناعة المناطيد إلا همسًا؛ وذلك بسبب قابليته للاشتعال والحوادث التي نَتَجَت عن استخدامه.
بعد أكثر من ثمانية عقود، ما كان يُخْشَى من انفجاره، صار اليوم وقودًا للحياة، وأملًا لمستقبل الأرض؛ حيث عاد الهيدروجين إلى الواجهة، لا من مختبرات أوروبا، بل من قلب الخليج العربي، وتحديدًا من ميناء الدقم في سلطنة عُمان.
في الجنوب الشرقي من سلطنة عُمان، وعلى سواحل بحر العرب، تقف منطقة الدقم بهدوئها القديم، لكن بخُطَط لا تُشْبِه ماضيها. المكان الذي كان مُخصَّصًا لإصلاح السفن وتوسعة الأنشطة اللوجستية، صار الآن في قلب مشهد عالمي جديد.
في عام 2022م، أعلنت سلطنة عمان خطّتها الوطنية للطاقة النظيفة، وأطلقت معها شركة “هايدرم” Hydrom ؛ لتَقُود تحوُّلًا جذريًا من اقتصاد الوقود الأحفوري إلى مراكز إنتاج للهيدروجين الأخضر من الماء، باستخدام الكهرباء النظيفة القادمة من شمس الصحراء ورياح الساحل.
دخلت شركة Hydrom المَشْهد بخمسة أهداف إستراتيجية، كانت أقرب إلى الأحلام، لكنها اليوم تحوَّلت إلى مشاريع قائمة بالفعل، أبرزها “هاي بورت دقم Hyport Duqm“، و”جرين إنرجي عمان Green Energy Oman“، و”أي سي أم أي ACME” و”صلالة H2“، لتصبح أهدافًا طموحة. ومن خلال هذه المشروعات تسعى السلطنة إلى رفع إجمالي إنتاج الهيدروجين إلى مليون طن سنويًّا، لتصبح عمان من أوائل الدول المُصدِّرة بحلول 2030.
وتكمن العبقرية هنا في تكامل العناصر: الموقع البحري، الأراضي الفارغة، والموانئ شبه الجاهزة. فهذه المشروعات ليست مجرد مبادرات تقنية، بل هي إشارات على دخول السلطنة في تحالفات دولية جديدة، تجعل من عُمان مركز ثقة لدى أوروبا، وخاصةً بعد توقيع اتفاق نقل الهيدروجين مباشرة إلى ألمانيا وهولندا، والذي أعلنت عنها الحكومة العمانية باعتبارها أول “ممر أخضر” لنقل الهيدروجين السائل عبر البحار.
وهذا دليل على أنّ العالم لم يَعُد يبحث فقط عن الأقل سعرًا، بل عن الطاقة الأنظف. وبذلك لم تَعُد عُمان مجرد مُصَدِّر خام، بل فاعِل مُؤثِّر في خريطة التحوُّل العالمي نحو اقتصاد منخفض الكربون.
ما يُميِّز التجربة العُمانية أنها لا تُكرِّر النماذج الخليجية الأخرى، بل تَخْلُق نموذجها الخاص. لا تقوم على فائض مالي ضَخْم، بل على قراءة دقيقة للسوق العالمي، واستغلال ما تَملكه من مميزات. المشاريع مُوزَّعة بين الدقم وصلالة، وتعمل على التوازن بين المركزية والكفاءة، وتَمْنح الدولة مرونة في التخزين والنقل والتصدير.
والأهم أن تلك المشروعات تُلزم المستثمرين بالاستفادة من القدرات المحلية وتطويرها من خلال نقل التكنولوجيا، ما يعني أن الفائدة ليست قصيرة المدى فقط، بل ممتدة لعقود.
اليوم، يتحول الميناء إلى مركز لوجستي متكامل، يربط بين الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الصحراء، والمحيط المفتوح على أسواق العالم. ومع التوسع المخطَّط له حتى 2040، قد تصبح الدقم أول مدينة عربية يَعْرفها الاقتصاد الهيدروجيني، لا مِن الفوائض النفطية بل من الطاقة النظيفة والمتجددة.
خلاصة القول: لم يعد “الميناء” مجرد ميناء، بل صار رمزًا لمن يملك زمام الطاقة، لا من يستهلكها فقط. وفي زمن يتغير فيه تعريف القوة، تبقى الدقم حكاية تبدأ من الصحراء، وتكتب نهايتها في أوروبا.