تشهد العلاقات بين أوروبا وسوريا تَعقيدات متزايدة تعكسها نَبْرة الخطاب الأوروبي المتعالي في التعامل مع الحكومة السورية الجديدة؛ حيث تطلب أوروبا شروطًا صارمةً لإعادة العلاقات الرَّسمية، في خطوةٍ تُعبِّر عن رؤية سياسية تفتقر إلى المرونة اللَّازمة لتحقيق مصالح مشتركة للطَّرفين.
هذا الأسلوب في التواصل لا يخدم تطوُّر العلاقات، بل على العكس، يضع العراقيل أمام أيّ فرصة لتعاون مستقبليّ. في الوقت الذي تسعى فيه سوريا لإعادة بناء ما دمَّرته الحرب، يُنتَظر من الدول الكبرى أن تلعب دوراً بنّاءً في هذا المسار، لكنّ أوروبا تُغامر بإقصاء نفسها عن هذه الساحة المُهمَّة بسبب الخطاب المشروط الذي تتبنَّاه.
تتميَّز سوريا بموقع إستراتيجي مُهِمّ يربط بين آسيا وأوروبا، ويطل على البحر المتوسط، ما يجعل إعادة إعمارها فرصةً اقتصاديةً وسياسيةً لا يُستهان بها. ولذا فإن تجاهل هذا الواقع، أو التعامل معه بطريقة متعالية، قد يدفع سوريا إلى البحث عن شركاء آخرين، مثل الصين والولايات المتحدة، والذين أظهروا استعداداً أكبر لدخول المنطقة بمرونة دبلوماسية واستثمارات ضَخْمة.
الصين، على وجه الخصوص، بقوّتها الاقتصادية المتنامية ومبادرة “الحزام والطريق”، قادرة على لَعِب دور حاسم في إعادة الإعمار، وربما بمُفردها، ما سيجعل أوروبا في موقف المُتفرّج، بعيدًا عن المشاريع التنموية الضخمة التي ستُنفَّذ في المستقبل القريب.
العجرفة السياسية ليست جديدة على الساحة الدولية، ويمكن استحضار مثال العراق بعد عام 2003م؛ فعقب الغزو الأمريكي للعراق، ابتعدت العديد من الدول الأوروبية عن لَعِب دَوْر مباشر في إعادة الإعمار بسبب معارضة الحرب أو الاختلافات السياسية مع الولايات المتحدة. وقد أدَّى ذلك إلى تعزيز النفوذ الإيراني في العراق؛ حيث ملأت طهران الفراغ السياسي والاقتصادي الذي تركته أوروبا. واليوم، تتمتع إيران بنفوذ واسع في العراق، بينما لا تزال أوروبا تعاني من تَراجُع دَورها في المنطقة.
من الضروري أن تُعيد أوروبا النظر في خطابها السياسي تجاه دمشق. فالمخاوف الأوروبية بشأن حقوق الإنسان والإصلاح السياسي يمكن مُعالجتها من خلال قنوات دبلوماسية فعَّالة، وليس عَبْر فَرْض شروط قد تبدو إملاءات سياسية. كما أن فتح قنوات الحوار، مع الحفاظ على المصالح الأوروبية في سوريا، يمكن أن يُسْهم في تحقيق الاستقرار، ويُمهّد الطريق أمام أوروبا لِلَعِب دور فاعل في إعادة الإعمار.
في النهاية، إنّ السياسة الخارجية يجب أن تكون انعكاساً للمصالح الإستراتيجية، وليست منصة لفرض الرُّؤى الأيديولوجية. والعجرفة الأوروبية قد تُكلّف القارة كثيراً، ليس فقط بخسارة فرص اقتصادية في سوريا، بل بغيابها عن منطقة تشهد تحولات إستراتيجية قد تُعيد رسم خارطة النفوذ الدولي.