العالم لا يعترف بالحقوق، يعترف فقط بالقوة وبالمصالح.
سوريا اليوم أمام مرحلة مِفْصَلية، لا مكان فيها للحديث عن الحقوق؛ فالقانون الدولي ورغم كلّ المؤسسات الدولية لا مكان فيه للمبادئ، القوة والمَصالح لها الكلمة الفصل، وأزمة السويداء كانت تَكريساً لهذا الواقع.
قبل عدة أشهُر كثُر الحديث عن سَعْي دوليّ لإنهاء حالة الصراع التي يعيشها الشرق الأوسط منذ عقودٍ، بالإضافة إلى اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب تستعيد سوريا به مرتفعات الجولان. لكنَّ الأحداث الأخيرة أكَّدَت أنّ أيّ اتفاقٍ تُريده إسرائيل لا بد أن يُحقِّق مَصالحها فقط، دون أيّ اعتبارٍ لمصالح دمشق، وتمنعُ استعادة الدولة لموقعها ودورها الإقليمي.
خطورةُ الأزمةِ ليس فقط بسبب التداعيات الأمنية والسياسية، بل نتيجة ما تكشفه من عُمْقِ التداخلات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها العلاقات المتشابكة بين سوريا من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهةٍ أخرى.
أظهَر التوتُّر أنَّ الصراع لم يَعُد محصوراً في الداخل السوري، بل صار جزءاً من ترتيبات إقليمية، تتجاوز البُعْد المحليّ، وتُسلِّط الضوء على صراع النفوذ والمصالح بين القوى الكبرى.
ولفَهْم الواقع الإقليمي والدولي لا بد من تسلسل منطقي للأحداث، مع البدايات الأُولَى للتوتُّر ظهر التناقض الواضح بين الموقف الأمريكي والإسرائيلي، في البداية أعلنت واشنطن أنها طلبتْ من إسرائيل عدم التدخُّل، وأنَّ قضية السويداء شأن سوريّ داخليّ، وهذا ما أكَّدَتْه وسائل إعلام إسرائيلية. لكنْ على أرض الواقع شنَّتْ إسرائيل ضرباتٍ استهدفَت الجيش السوري ورئاسة هيئة الأركان. وهنا يبدو أنَّ الطَّلَب الأمريكي بعدم التدخُّل لم يَلْقَ آذاناً صاغية في تل أبيب.
بعد الهجمات الإسرائيلية كانت التصريحات الأمريكية ضد التدخل الإسرائيلي، وقال البيت الأبيض: “نتنياهو يتصرَّف كمجنون. يَقْصِف كلّ شيءٍ في كلِّ وقت، هذا قد يُقوِّض ما يحاول ترامب تحقيقه”.
تصريح آخر يقول: “نتنياهو أشبهُ بطفلٍ لا يَعرف كيف يَضْبِط سلوكه”. وصرَّح مسؤول في وزارة الخارجية بقوله: “القَصْف في سوريا فاجأ الرئيس والبيت الأبيض. لا يُحِبّ ترامب أن يَفْتح التلفاز فيرى قنابل تتساقط على بلدٍ يحاول التوصل إلى سلام معه، وأعلن عن مبادرة لإعادة إعماره”.
هذه التصريحات الأمريكية الحادة لم تُتَرْجَم على الأرض، ولم يكن هناك ضَغْط فعَّال على إسرائيل، وهنا يبدو أنَّ هناك قراءةً مختلفةً للوضع في الشرق الأوسط بين ترامب ونتنياهو، ترامب يسعى لأن تكون سوريا مدخلًا لاستقرار المنطقة، ويراها نهايةً للمشروع الإيراني وحصاراً تاماً لميليشيا حزب الله.
لكنَّ نتنياهو قَلِق من الدور التركي المستقبلي في سوريا، ويخشى من تعاظم هذا الدور، ولا يريد علاقة نِدِّيَّة مع سورية، بل يرغب بعلاقة أقرب للتَّبعيَّة، تلعب فيها الأقليات دوراً هاماً في دَعْم المشاريع الإسرائيلية؛ بحيث تكون سوريا نموذجاً لبنانياً، لا سلطة مركزية فيها، مع دعم للأقليات بحيث تكون داعماً لأمن إسرائيل.
على المستوى الأمريكي، من المؤكَّد أنَّ الإدارة الأمريكية لن تُقايض علاقتها مع تل أبيب بأيّ علاقة أخرى، ولن تقف في صفّ سوريا ضد إسرائيل، وهنا تظهر أهمية المصالح، لا بد من تحركات على الأرض تؤكّد لواشنطن أن مصالحها القومية في استقرار الدولة السورية، وفي بَسْط سيطرتها على كلّ أراضيها، وإعطاء الأقليات دوراً يتناسب مع حَجْمهم، مع الابتعاد عن المحاصصة السياسية والطائفية، وأن الأقليات مَحْمِيَّة بقوة الدولة، وعندها يمكن لترامب زيادة الضغط على نتنياهو لوَقْف التدخل في سوريا.
خلاصة الأمر: المعادلة الدولية لم تتغيَّر؛ مَنْ يَمْتَلِك القوة ويُدِير مصالحه بذكاء؛ هو الذي يَرْسم المستقبل. وعلى سوريا أن تُعِيد تموضعها داخل هذه المعادلة، وأن تَفْهم أنَّ العلاقات الدولية لا تَعْرف لُغَة الأخلاق، بل منطق المصالح فقط.
السويداء كانت اختباراً حقيقياً لموقف الميليشيات الطائفية، وإسقاطاً لقناع الوطنية عن الخونة، وتأكيداً على أن إسرائيل كانت وما تزال عدواً لا يَفْهم إلا لُغَة القوة.