صدر مؤخراً تقرير علمي معتمد على مسح ميداني صادر عن شبكة الباروميتر العربي بالتعاون مع شبكة بي بي سي. وقام التقرير بإجراء مسح ميداني في تسع دول عربية. وشمل المسح 23,000 فرد. وخلص التقرير إلى أن غالبية العرب يعتقدون أن الديمقراطية ليست صالحة لبناء اقتصاد متماسك. وفيما يلي عرض لأهم نتائج التقرير وقراءة وتحليل لهذه النتائج وتحديد دلالاتها.
تشير نتائج التقرير إلى أنه بعد أقل من عامين من ثورات الربيع العربي أصبح هناك تحوّل بوجهات النظر الشعبية حول الديمقراطية. حيث بات هناك رأي قوي بأن الديمقراطية ليست شكلاً مثالياً للحكم ولن تصلح أي شيء خاصة المشاكل الاقتصادية. ففي معظم البلدان التي شملها الاستطلاع يرى أكثر من 50% من المشاركين أن الاقتصاد يكون ضعيفاً في ظل نظام ديمقراطي. وهي وجهة نظر معظم المشاركين من العراق وتونس وفلسطين بنسب تتراوح بين 65 – 75%. فيما يخالف مواطنو دولتي السودان والمغرب هذا الرأي بنسب تزيد عن 50%.
في الدول التي شملها الاستطلاع وافق أو وافق بشدة أكثر من 50% على أنهم مهتمّون بفاعلية سياسات حكومتهم. أكثر من اهتمامهم بشكل الحكومة سواء أكانت ديمقراطية أم استبدادية. أبرزها العراق وتونس والأردن وليبيا بنسب تتراوح بين 75 – 79%. وكانت أقل الدول اقتناعاً بهذا الرأي السودان والمغرب بنسبتي 61. 62% على الترتيب. كما يرى أكثر من 50% المشاركين في الاستطلاع أن بلادهم بحاجة إلى زعيم يمكنه “تعديل القواعد” إذا لزم الأمر لإنجاز الأمور. باستثناء المغرب التي يوافق فيها أقل من 50% على هذا الرأي. في المقابل يرى أكثر من 80% في العراق وتونس أنهم بحاجة لهذا الزعيم.
قد تشير النتائج إلى رغبة الدول العربية في العودة إلى الاستبداد أو ما يسميه خبراء السياسة التراجع الديمقراطي. وهو بالمناسبة اتجاه سائد في جميع أنحاء العالم اليوم. لكن يظل أحد الدوافع الرئيسية لذلك هو الاعتقاد الآن بأن الديمقراطية قد فشلت اقتصادياً في تلك الدول. يدلل على هذا النتائج التي توصل إليها التقرير أيضاً. والتي أكدت أن مواطني 8 دول عربية ينظرون إلى الوضع الاقتصادي على أنه التحدي الأكثر إلحاحاً. قبل الفساد وعدم الاستقرار السياسي وانتشار جائحة كورونا. أبرزها الأردن بنسبة 63%. ولبنان بنسبة 48%. ومصر بنسبة 47%.. في المقابل هناك دولتان فقط تخالفان ذلك وهما مواطنو العراق الذين يرى 26% منهم أن مواجهة الفساد أكثر أهمية. و21% من مواطني ليبيا الذين يرون أن مشكلة عدم الاستقرار السياسي أكثر أهمية.
الموقف السلبي للعرب من الديمقراطية لم يأتِ من فراغ. بل كان نتيجة تجربة واقعية. وتظهر ملامح هذه التجربة من خلال عدة نقاط. فأولى تلك الملامح مشكلة الجوع. حيث يرى 30% في المتوسط من مواطني الدول التي شملها الاستطلاع أن الطعام نفد خلال العام الماضي قبل أن يكون لديهم الأموال الكافية لشراء المزيد. وهي مشكلة ظهرت بشدة في مصر بنسبة 68%. ثم موريتانيا بنسبة 65%. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الاستطلاع أُجري قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير الماضي. والذي كان أحد تبعاته انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء المنطقة -لا سيما في مصر وليبيا وتونس- والتي تعتمد بشكل كبير على صادرات القمح الروسية والأوكرانية. وهذا يشير إلى أن موقف الشعوب حالياً قد يكون أصبح أكثر حساسية.
النقطة الثانية كانت قتامة التوقعات الاقتصادية. حيث رأى أقل من 50% في المتوسط أن الوضع الاقتصادي جيد. وكانت أبرز تلك الدول لبنان. حيث رأى 1% فقط أن الوضع الاقتصادي جيد. وهو ما يوافق رؤية البنك الدولي الذي وصف أزمة لبنان الاقتصادية بأنها من أشد الأزمات في العالم منذ منتصف القرن الـ19. النقطة الثالثة هي المستقبل الاقتصادي والذي يتوقعه معظم مواطني دول المنطقة أسوأ من الوضع الحالي. لكن يظل التفاؤل في 3 دول فقط. حيث قال أكثر من 30% من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع إن الوضع سيكون أفضل أو أفضل إلى حد ما في العامين أو الثلاثة أعوام القادمة.
تضمنت قائمة الدول المتفائلة بالأوضاع الاقتصادية تونس بنسبة 61% من مواطنيها. ثم مصر بنسبة 50%. ثم موريتانيا بنسبة 49%. مقابل باقي الدول المُتشائمة. وهذا التشاؤم سبب مُهم لتطلع الناس لنظام الحكم الاستبدادي الذي يمكن أن يُخرجهم من الفقر بشكل سريع مثلما حدث في الصين. إضافة لكون الواقع الاقتصادي في غالبية الدول العربية كان أفضل في مرحلة ما قبل الثورات. فعلى الرغم من أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن مثالية في تلك الفترة لكنها بالتأكيد كانت أفضل من الحالية.
العلاقة بين الاستقرار الاقتصادي والديموقراطية غالباً ما تكون علاقة طردية. فكلما زاد مؤشر الدول في الديمقراطية وفتح الأسواق وحرية الحركة زادت معها معدلات الثقة بالاقتصاد. ومِن ثَم تحقيق استقرار اقتصادي. ووفقاً للمؤشر الدولي للتنمية الديمقراطية تعتبر الدول الأكثر ديموقراطية الأنجح اقتصادياً.
إن موقف الشعوب العربية السلبي من الديمقراطية يعد مبرّراً. فمن الصعب إقناع الشعوب بأن الديمقراطية حالة مثالية في ظل مؤشرات الفقر المرتفع والتهديد بالمجاعة وانخفاض الدخل وارتفاع البطالة. فالغالبية من حقهم المطالبة باستقرار اقتصادي كمطلب أول ورئيس. ولاحقاً وبعد تحقيق هذا المطلب يمكن البدء بالمطالبة بالحقوق السياسية كالمشاركة وحرية العمل السياسي وغيرها.
لا يخرج الموقف الشعبي العربي عن نظريات علم النفس في إشباع الحاجات. فهرم ماسلو يقول بأن إشباع الحاجات الفيزيولوجية (الطعام والشراب والمسكن) يقع في قاعدة الهرم. ولا يمكن التفكير بإشباع أي حاجات أخرى قبل تحقيق الإشباع التام لهذه الحاجات. لذلك فمن غير المستهجن أن يكون رأي الشعوب بأنها تهتم بأداء الحكومة الاقتصادي أكثر من اهتمامها بكون هذه الحكومة ديمقراطية أم استبدادية.