رزحت رواندا لسنوات تحت حكم الاستعمارين الألماني والبلجيكي اللذين عمّقا الخلافات الأهلية بين فئتي الشعب الهوتو “الغالبية 85%” والتوتسي “الأقلية 10%”. إضافة لمجموعة صغيرة تسمى “توا” .فاندلعت في العقد الأخير حرب أهلية من أبشع وأعنف الحروب الأهلية في إفريقيا. والسؤال المهم هنا: كيف تمكنت رواندا من النهوض الاقتصادي على أطلال الحرب الأهلية؟
راح ضحية الحرب الأهلية في رواندا أكثر من مليون نسمة. هذا بالإضافة لآثارها المدمرة على الاقتصاد. فانخفض الناتج المحلي الإجمالي للنصف خلال عام واحد. وأصبح 80% من السكان “فقراء”. ودمرت مساحات كبرى من الأراضي الصالحة للزراعة ولتربية الماشية والبنية التحتية الإنتاجية تدميراً كاملاً.
الوضع المتدهور في رواندا على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية جعل المصالحة الشاملة والاستقرار السياسي والأمني ضرورة ملحة لإعادة عجلة الاقتصاد للدوران. وهذا ما بدأه بول كاغامي الذي تسلّم مقاليد الحكم عام 2000م. فأقرّ دستوراً يلغي الفوارق العرقية وشكّل حكومة توافقية.
التحدي الذي بدأه كاغامي للنهوض برواندا حمل اسم “رؤية 2020”. وكان يتضمن ثلاثة أهداف. تكوين الثروات الوطنية. وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية. والتحول من اقتصاد زراعي لاقتصاد المعرفة. بالإضافة إلى تعزيز روح المبادرة الشعبية بإيجاد طبقة وسطى من المستثمرين المحليين قادرين على تطوير الاقتصاد.
وبذلك استندت رؤية رواندا للتنمية 2020م لستة أركان. دعم الحكم الرشيد. وبناء الدولة القوية. وتنمية الموارد البشرية. والتحول لاقتصاد المعرفة. والتعاون مع القطاع الخاص كشريك للتنمية. وتطوير البنية التحتية في البلاد. والتحول إلى زراعة ذات قيمة مضافة عالية. وتوسيع نطاق الاندماج الإقليمي والدولي.
دعم الحكم الرشيد وبناء الدولة في “رؤية 2020م” ارتكز على تحويل رواندا لدولة حديثة موحدة حول قيمها النابعة من ثقافتها الشعبية. لكنها في نفس الوقت منفتحة على جيرانها. تهتم بالقانون وإقرار العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين مواطنيها وتطوير الموارد البشرية وإشراك المجتمع المدني في صنع القرار.
التحول للاقتصاد المعرفي في رؤية رواندا 2020م كان عبر رفع مستوى الرفاه للشعب وبناء قوة عاملة منتجة وفعالة. من خلال تطوير الخدمات التعليمية. وإطلاق برامج مكثفة للتدريب المهني والتقني في المجالات المعرفية المهمة في التكنولوجيا والإدارة. وتمكين الشباب وتشجيعهم على المبادرات الخاصة.
في مجال تطوير الخدمات الصحية كانت أهداف رؤية 2020م هي خفض معدل وفيات الرضع والأمهات. وزيادة متوسط العمر عبر السيطرة على الأمراض المنتشرة بكثرة في أنحاء رواندا مثل الملاريا والإيدز. والاهتمام بتنظيم الأسرة وتخفيض معدل الخصوبة لدى النساء. وخفض معدل نمو السكان لخفض معدلات الوفيات.
التعاون مع القطاع الخاص كشريك لعملية التنمية في رواندا جاء عبر توفير طبقة وسطى من رواد الأعمال الروانديين. والتوسع في سياسات الخصخصة الشاملة. والتي ساعدت على خفض التكاليف وتوسيع الخيارات لدى المستهلك. وشملت رؤية 2020 القطاع غير الرسمي في مجالات عديدة مثل: التجارة والحِرَف اليدوية.
إن تطوير البنية التحتية المفتاح الرئيس لنهضة رواندا. لأنه أداة لخفض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية لزيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية. حيث تم تطوير وسائل بديلة للنقل منخفضة التكلفة وتوسيع شبكة النقل الداخلية وتحسينها. وتوصيل الطاقة الشمسية للمناطق الريفية. وضمان وصول الإنترنت للجميع.
الآن.. تحتل رواندا موقع الريادة في مجال الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. حيث قدّمت أول خدمة طائرات بدون طيار لتغطية خدمات الدعم الطبي في المناطق النائية. وأطلقت قمراً صناعياً لربط مناطقها الحضارية ومعظم المباني الحكومية التجارية والخدمية بالإنترنت المجاني منذ 2019م.
كما حرصت رؤية 2020م على التحول من أنظمة الزراعة البدائية الموجهة للاستهلاك العائلي إلى نظام حديث موجّه للسوق الداخلية والخارجية. من خلال إصلاح المؤسسات وقوانين ملكية الأراضي. والتوسع في الاستثمار في البنية التحتية الريفية. وجلب خبراء أجانب. وتوفير قروض ميسرة للمزارعين.
منحت رؤية 2020م أولوية كبرى للاندماج مع دول الجوار والعالم. فانتهجت الحكومة نظاماً ليبرالياً منفتحاً جاذباً للاستثمارات المحلية والأجنبية. والاستفادة من مقومات التعاون الإقليمي المتنامي. وخاصةً في منطقة البحيرات الكبرى. وتتصدر دول القارة الإفريقية في جذب المستثمرين الأجانب.
وانخفضت معدلات الفقر في رواندا من 44% في 2011م لـ38.1% في 2017م. وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 4.7% سنوياً. وارتقت من المرتبة الـ41 عام 2018م إلى الـ29 عالمياً في تقرير “البنك الدولي” لممارسة الأعمال لـ2019م. ولذلك تطمح لأن تصبح ذات دخل متوسط في 2035م. ثم دخل مرتفع بحلول 2050م.
وبذلك في عقدين تقريباً من التخطيط الذكي والعمل المتكاتف الجاد. تمكنت رواندا -سنغافورة إفريقيا- من تخطي آثار الماضي التعيس إلى حاضر مزدهر ومستقبل أكثر تفاؤلاً. يشهد انضمامها لقائمة الدول الأسرع نموّاً في العالم بمعدل نمو تجاوز 7% عام 2018م. فضلاً عن تحوّلها لأحد أهم الاقتصادات الإفريقية الناهضة.