تشهد الليرة التركية ومنذ عدة سنوات تراجعاً واضحاً. وتعزز هذا التراجع في عام 2021م بسبب عدة أسباب أبرزها تخفيض سعر الفائدة. إلا أنها وخلال الأشهر القليلة الفائتة شهدت استقراراً نسبياً على الرغم من العودة لسياسة تخفيض سعر الفائدة. وهو ما يتطلب دراسة الأسباب الحقيقية لهذا الاستقرار. وهل هو استقرار مؤقت تفرضه ظروف آنية. أم استقرار دائم نتيجة لسياسات اقتصادية مدروسة.
بشكل عام ترتبط قيمة العملة المحلية بعلاقة طردية مع سعر الفائدة. فعند ارتفاع معدل سعر الفائدة ترتفع قيمة العملة والعكس صحيح. وسبب هذه العلاقة أن سعر الفائدة يتحكم بالمعروض النقدي في السوق. فعند ارتفاع سعر الفائدة يقل معدل الاقتراض ويزداد معدل الإيداع في البنوك. وهو ما يعني تراجعاً في كمية العملة في السوق وبالتالي ترتفع قيمتها. فقيمة العملة ترتبط بعلاقة عكسية مع كميتها في التداول.
في حال تخفيض سعر الفائدة تتشجع الشركات والأفراد على المزيد من الاقتراض. ويتراجع معدل الإيداع كون سعر الفائدة المنخفض ليس مغرياً للإيداع. وهو ما يعني زيادةً في عرض العملة في السوق وبالتالي تراجع قيمتها.
يعد سعر الفائدة من أكثر الأدوات الاقتصادية استخداماً لمعالجة حالتي التضخم والركود. ففي حال التضخم يتم رفع سعر الفائدة بهدف تقليل كمية النقود في التداول. وبالتالي ينخفض الطلب ويتراجع التضخم.
في حالة الركود يتم تخفيض سعر الفائدة بهدف زيادة كمية النقود في السوق. وبالتالي تتشجع الشركات والأفراد على الاقتراض. وتزداد كمية النقود في السوق ويرتفع الطلب. وبالتالي يرتفع النمو الاقتصادي ويخرج الاقتصاد من حالة الركود. وهذه العلاقة بين التضخم والركود من جهة وسعر الفائدة من جهة أخرى تعد علاقة تقليدية تعتمدها غالبية المدارس الاقتصادية والبنوك المركزية في العالم.
لكن السياسة النقدية التركية تخالف المتعارف عليه اقتصادياً في معالجة التضخم. فهي تعتقد أن رفع سعر الفائدة يعالج التضخم. ولكن على المدى القصير فقط. كما أنه يترك خللاً في الاقتصاد يصعب معالجته. لذلك تم مخالفة العرف الاقتصادي والاعتماد على تخفيض سعر الفائدة لعلاج التضخم.
يقوم جوهر السياسة النقدية التركية على أن تخفيض سعر الفائدة سيؤثر إيجاباً على معدل التشغيل والاستثمار. وبالتالي ترتفع الصادرات وتقل الواردات. وهو ما يعني تدفق المزيد من العملة الأجنبية إلى السوق التركية. وزيادة عرض العملة الأجنبية سيعني استقراراً في قيمة الليرة التركية كمرحلة أولى. والبدء في تحسن قيمتها كمرحلة ثانية.
على الرغم من استمرار خفض سعر الفائدة التركي. والذي بلغ مؤخراً 10.5%. إلا أن قيمة الليرة التركية وعلى خلاف العادة شهدت استقراراً نسبياً. وهذا الاستقرار يعود لعدة أسباب. السبب الأول: أثر تخفيض سعر الفائدة على ارتفاع قيمة الصادرات. والتي سجلت ارتفاعاً قدره 160% على أساس سنوي. وهنا وعلى الرغم من ارتفاع قيمة الواردات إلا أنها ارتفاعات مؤقتة سببها ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
السبب الثاني: ارتفاع عوائد السياحة. وذلك بنسبة 190%. فخلال الربع الثاني من العام الحالي حققت السياحة عوائد بلغت قيمتها أكثر من 8 مليارات دولار. وهذا يعني زيادة في عرض الدولار في الاقتصاد التركي وبالتالي دعم قيمة الليرة أمامه.
السبب الثالث: التقليل من الآثار السلبية لرفع سعر الفائدة. فتخفيض سعر الفائدة يعد طارداً للمدخرات البنكية. ولذلك سعت الحكومة التركية لعلاج هذه النقطة من خلال تشجيع الادخار على الرغم من خفض سعر الفائدة. وذلك بمنح ضمانات تحفظ قيمة المدخرات في حال تراجع قيمة الليرة.
السبب الرابع: المناخ الإيجابي الاقتصادي العام. فالعامل النفسي السلبي يعد ضاغطاً على قيمة العملة الوطنية. ومؤخراً وبعد المصالحات السياسية بين تركيا وبعض دول الخليج وتوقيع اتفاقيات للاستثمار ساد مناخ اقتصادي إيجابي. وهو ما دفع المستثمرين للاحتفاظ بالليرة وتراجع معدل الدولرة في البلاد.
السبب الخامس: انتقال بعض رؤوس الأموال الروسية بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وهو ما يعني زيادة عرض الدولار في السوق التركية. وبالتالي دعم استقرار قيمة الليرة. وهنا من الضروري الإشارة إلى أن الليرة في الحقيقة لم تستقر وحسب. بل شهدت تحسناً. ولكن التحسن غير ملحوظ بسبب ارتفاع قيمة مؤشر الدولار الأمريكي بعد رفع سعر الفائدة الأمريكية عدة مرات.
من المتوقع أن يشهد سعر الفائدة التركي تخفيضاً جديداً قبل نهاية العام. ومستقبل الليرة مرهون بعدة عوامل منها داخلي والآخر خارجي. ولكن وبشكل عام يسيطر مناخ إيجابي حول قيمتها المستقبلية. والأيام القادمة ستوضح ما إذا كانت سياسة خفض سعر الفائدة ستكون إيجابية على الليرة التركية أم سلبية.