في الخامس عشر من سبتمبر 2008، كانت نيويورك على موعد مع حدث خطير. أمام مبنى “ليمان براذرز Lehman Brothers”، -أحد أعرق بنوك وول ستريت-، وقف الموظفون يحملون أغراضهم الشخصية بعد إعلان إفلاس مؤسسة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر.
المشهد كان صادمًا للعالم بأَسْره: عملاق بهذا الحجم ينهار بين ليلة وضحاها، ما الذي قد يحدث للاقتصاد العالمي بأكمله؟ في غضون أيام، تجمَّدت أسواق المال، تبخَّرت الثروات، وارتفعت معدلات البطالة.
لكن وسط كلّ هذا الخراب، كان هناك مَن يربح. شركات استحوذت على منافسيها بأسعار زهيدة، ومستثمرون اشتروا أصولًا منهارةً لبيعها لاحقًا بأضعاف السعر. هذا المشهد يلخص جوهر الفكرة التي يقدمها المفكر الماركسي ديفيد هارفي David Harveyفي كتابه لغز رأس المال وأزمات الرأسمالية The Enigma of Capital and the Crises of Capitalism
جوهر العلاقة بين الرأسمالية والأزمات
الرأسمالية لا تنهار بالأزمات، بل تتجدَّد عبرها. الأزمات ليست استثناءً في مسار النظام، بل هي جزء من آليته الداخلية. كل انهيار مالي أو اقتصادي يفتح الباب لإعادة توزيع الثروة والسلطة على نحوٍ يسمح باستمرار الدورة الرأسمالية.
منذ بدايات القرن العشرين، أثبتت الرأسمالية أنها تعرف كيف “تُوظّف” أزماتها. الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي مثَّل كارثةً إنسانيةً واقتصاديةً، لكنّه مهَّد لظهور “الاتفاق الجديد” أو الـNew Deal في أمريكا.
الأزمات النفطية في السبعينيات أسفرت عن صعود النيوليبرالية، مع تحرير الأسواق وخصخصة الخدمات العامة. أزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات فتحت الباب أمام صندوق النقد الدولي لفرض سياسات “التكيُّف الهيكلي”، التي غيرت ملامح اقتصادات بأكملها.
شدة حاجة رأس المال إلى الأزمات
يرى هارفي Harvey أن رأس المال “يحتاج” إلى الأزمة، مثلما يحتاج الجسد إلى التنفس. ويمكن ملاحظة هذا النمط بوضوح في أزمة 2008؛ فبينما خسر الملايين بيوتهم ومدخراتهم، حقَّقت بعض المؤسسات أرباحًا كبيرةً.
بنك “غولدمان ساكس” Goldman Sachs، على سبيل المثال، استفاد من المراهنة ضدّ أدوات مالية ساعد هو نفسه في الترويج لها. وكذلك، ظهرت شركات التكنولوجيا المالية (فينتك) Fintech كبدائل مبتكرة للنظام المصرفي التقليدي. وهنا نرى كيف تحوَّلت الأزمة من تهديد بالانهيار إلى فرصة لتجديد شكل الرأسمالية وتوسيع نطاقها.
لكنّ اللافت أنّ الأزمات لا يستغلّ أثرها بنفس الطريقة في كلّ مكان. في الولايات المتحدة، جاء الرد عبر إنقاذ البنوك بضخ مئات المليارات من أموال دافعي الضرائب، ما أعاد عجلة وول ستريت للدوران سريعًا.
أما في أوروبا، فقد اعتمد مسار التقشف، ودفعت بلدان مثل اليونان الثمن: تخفيضات في الأجور، تقليصًا للخدمات العامة، وبيعًا لأصول الدولة. والأمر واضح، الأزمة لم تُحَلّ، بل أُعِيد توزيع كلفتها من الأغنياء إلى الطبقات الوسطى والفقيرة، في حين ضمنت النُّخَب المالية استمرارها.
تشكيل الاقتصاد لصالح كبار اللاعبين
أزمة جنوب شرق آسيا عام 1997م تعكس نفس النمط. الملايين فقدوا وظائفهم ومدخراتهم، لكن في المقابل، استحوذت الشركات متعددة الجنسيات على مؤسسات محلية كبرى بأثمان بخسة. كانت الأزمة بالنسبة لرأس المال العالمي “فرصةً ذهبيةً” للتوسع.
في أمريكا اللاتينية، قدَّمت الأرجنتين مثالًا واضحًا مطلع الألفية. بعد سنوات من الاقتراض المفرط، انهار الاقتصاد في 2001م. الفقر والبطالة ضرَبا البلاد، واندلعت احتجاجات شعبية عارمة. ومع ذلك، تحوَّلت الكارثة إلى مختبر لتجارب اقتصادية جديدة، أبرزها أندية المقايضة. لكن في المقابل، كانت هناك شركات عالمية تترصد الفرصة، فاشترت مؤسسات حيوية بأثمان زهيدة. مرةً أخرى، الأزمة أعادت تشكيل الاقتصاد لصالح كبار اللاعبين.
البُعْد النفسي للأزمات
لا يمكن فهم الأزمات فقط بالأرقام. هناك بُعْد نفسي عميق. في لحظات الانهيار، يسود الذعر الجماعي. الناس يهرعون لبيع الأسهم، لسَحْب الودائع. هذا الخوف الجماعي ليس عَرَضًا جانبيًّا، بل هو جزء من توابع الأزمة. وحين يفقد الجمهور الثقة، تنكشف هشاشة النظام، ما يمنح القوى الكبرى مساحةً أكبر لإعادة الإمساك بخيوط اللعبة. بكلمات أخرى، الأزمات تصنع أيضًا في عقول البشر قبل أن تقاس في أسواق المال.
لعل ما جرى في الولايات المتحدة عام 2023م مثال واضح، حين انتشرت أخبار عن تعثُّر بنك سيليكون فالي Silicon Valley، لم ينتظر المودعون بيانات رسميةً أو خطط إنقاذ، بل سارعوا خلال ساعات لسحب مليارات الدولارات.
هذه السرعة في الهلع التي غذَّتها الشائعات ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لم تمنح السلطات وقتًا لاحتواء الأزمة، فتحوَّلت إلى انهيار كامل للبنك. الخوف الجماعي هنا لم يكن مجرد انعكاس لواقع اقتصادي، بل هو نفسه الذي صنع الانهيار، وأثبت أن ثقة الناس هي رأس المال الأهم في أيّ نظام مالي.
التحدي الأضخم في الأفق
إذا كانت الأزمات الاقتصادية والمالية قد أعادت تشكيل الرأسمالية مرارًا، فإن أزمة المناخ تبدو التحدي الأضخم في الأفق. لكن حتى هنا، يمكن ملاحظة نفس النمط: بدلاً من اعتبار الكارثة البيئية تهديدًا وجوديًّا، تطرح “الفرص الاستثمارية الخضراء” كسوق جديدة.
شركات كبرى تتسابق للاستحواذ على مصادر الطاقة المتجددة، وتسويق منتجات صديقة للبيئة بأسعار مرتفعة. الأزمة المناخية تتحوَّل تدريجيًّا إلى “أرض استثمارية”، ما يعني أن رأس المال ينجح مرةً أخرى في تحويل التهديد إلى فرصة للربح.
يبقى السؤال الجوهري: إلى أيّ مدًى يمكن لهذا النمط أن يستمر؟ إذا كانت الأزمات المالية قابلةً للإدارة نسبيًّا، فإن أزمة المناخ قد تكون مختلفةً. ارتفاع درجات الحرارة، ذوبان الجليد، كلها أحداث قد لا تُتيح للنظام تَرَف إعادة التوازن بسهولة.
ومع ذلك، يراهن كثيرون على أن الرأسمالية ستجد في هذه التحديات مسارًا جديدًا للتراكم، سواء عبر أسواق الكربون أو تجارة التكنولوجيا النظيفة. وهنا يظهر التناقض: حتى أخطر أزمات الإنسان قد تتحول إلى وسيلة لبقاء الرأسمالية.
خلاصة الأمر: من وول ستريت إلى أثينا، ومن جاكرتا إلى بوينس آيرس Buenos Aires، تُظْهِر التجارب أن الأزمات لم تكن يومًا نهايةً للرأسمالية. على العكس، كانت محطات لإعادة ابتكار نفسها. النظام المالي لا ينهار وحده، بل ينهار البشر تحته، بينما يخرج رأس المال في كل مرة أكثر قوةً وانتشارًا.
الدرس بسيط لكنه صادم: عندما تسمع عن “أزمة”، لا تتوقع أن تكون النهاية، بل بداية فصل جديد، قد يكون أكثر قسوةً. وإذا كانت الأزمات هي أكسجين الرأسمالية، فالسؤال: مَن يدفع الثمن؟