في أواخر التسعينيات، بدا العالم وكأنه يقف في بداية عصر ذهبي جديد، كلّ شيء يتَّجه إلى التكنولوجيا، شركات الإنترنت تنتشر بسرعة، الاستثمار يرتفع في المجال الرقمي، المستقبل مرسوم بلغة الشيفرة. لكنّ كلّ هذا الحلم الإلكتروني تبخَّر بشكلٍ مفاجئ، انهارت مئات الشركات، تبخَّرت مليارات الدولارات، وبدأت أزمة الـ(دوت كم).
المُحرِّك الصامت للأزمات الاقتصادية
في كتابه (صعود المال: التاريخ المالي للعالم)، يُقرِّر المؤرخ البريطاني نيال فيرغسون
(Niall Ferguson) أنّ كل حضارة كبرى، وكلّ نهضة، وكلّ كارثة اقتصادية، يقف وراءها دائمًا اكتشافٌ مالي جديد.
ويرى المؤلّف أن المال لم يكن مجرد وسيلة تبادل أو أداة مالية فقط، بل كان موجودًا في قلب التحوُّلات الكبرى في التاريخ البشري؛ سواء في صعود الحضارات أو في الأزمات الكبرى.
من بابل القديمة إلى هونغ كونغ المعاصرة، كان الابتكار المالي عنصرًا أساسيًّا في صعود الحضارات. وهذا يعني أن المال هو المُحرِّك الصامت الذي يقود تقدُّم الإنسان من الفقر إلى الازدهار. لكنّ المال مع كونه سببًا للازدهار، إلا أنه يمكن أن يكون سببًا للأزمات والإفلاس؛ وهذا الشيء واضح في فقاعة “الدوت كوم”.
كل شيء بدأ مع الإنترنت الذي كان بمثابة ثورة في عالم الاتصال؛ ففي منتصف التسعينيات، بدأت تظهر شركات جديدة، تعمل فقط من خلال الإنترنت، شركات بدون مكاتب حقيقية، بدون أصول ملموسة، لكنّها موجودة في البورصات، وقيمتها بالمليارات.
تخيَّل شركة جديدة، ليس لها أيّ تاريخ، تُطْرَح في سوق الأسهم ويَقفز سهمها 300% في أول يوم تداول! هذا لم يكن خيالًا، بل كان حقيقة ملموسة في وول ستريت بين عامي 1997 و2000.
هذا يُعيدنا إلى تاريخ طويل من الفقاعات المشابهة، من فقاعة زهرة التوليب الهولندية في القرن السابع عشر، فحينها كان سعر الزهرة الواحدة يعادل سعر منزل. إلى فقاعة مسيسيبي Mississippi في فرنسا في القرن الثامن عشر، في هذه الأزمة كان الناس يبيعون البيوت والذهب لشراء سهم واحد من شركة مسيسيبي. وفي النهاية أفلست الشركة واختفت ثروات الناس.
فقاعة الإنترنت
يؤكّد المؤلّف أن الفقاعات تتكرَّر دائمًا بسبب وَهْم جماعي، أو كما سماها “الحماس الفياض”، وأنه “عاجلًا أم آجلًا، تنفجر كلّ فقاعة، ويتحوّل الجشع إلى ذُعْر، ويتبدَّد الأمل أمام الواقع”.
وهي الفكرة التي تُفسِّر بدقة ما حدَث في فقاعة الإنترنت، حين فَقَد المستثمرون القدرة على التمييز بين القيمة الفعلية والقيمة السوقية، واعتقد كثير منهم أن مجرد وجود “dot.com” في اسم أيّ شركة يعني أنها ستكون كنزًا يمنحهم الذهب في القريب العاجل.
الفقاعة لم تقتصر على المستثمرين الأفراد فقط، بل شملت أيضًا البنوك الكبرى التي دخلت اللعبة، فهناك مؤسسات مالية ضخمة بدأت بشراء أسهم شركات لا تمتلك حتى نموذج عمل واضح أو أرباحًا ثابتة. والصحافة بدَوْرها ضخَّمت من الحماس، وهذا الأمر ساهم في تغذية هَوَس الجماهير بالمضاربة في أسهم الدوت كوم.
الفقاعة تبدأ برغبة كبيرة بالربح السريع، وعندما تنخفض الأسعار فجأة يتدافع الجميع للخروج من السوق، وقتها تنفجر الفقاعة.
في عام 2000، بدأ الانهيار، وخلال أشهر قليلة، ومع أكتوبر 2002 فقدت سوق الأسهم أكثر من 5 تريليونات دولار، وهناك شركات عديدة تحوَّلت إلى رماد رقمي، حتى الشركات العملاقة مثل “Amazon” فقدت أكثر من 90% من قيمتها.
الفقاعات ليست مجرد ظواهر مالية عابرة
المثير في هذا الانهيار أنه لم يكن مجرد حدث اقتصادي، بل كان زلزالًا اجتماعيًّا هزَّ مئات الآلاف من الوظائف، وبخَّر مدخرات التقاعد، وقلَّل ثقة الجمهور في التكنولوجيا. لسنوات، صار المستثمر ينظر بحذرٍ إلى أيّ شركة تقنية جديدة، حتى لو كانت تُحقِّق أرباحًا حقيقية.
هذا الأمر يوضِّح أنّ الفقاعات ليست مجرد ظواهر مالية عابرة، بل هي دورات مُتكرّرة يُعَاد فيها تكرار الأخطاء.
في التسعينيات، شهدت الأسواق المالية تدفُّقًا للسيولة بسبب سياسات الفائدة المنخفضة في أمريكا. هذا الوضع دفَع المستثمرين للبحث عن فُرَص سريعة لتحقيق الثروة، حتى لو كان ذلك على حساب تحمُّل مخاطر كبيرة وغير محسوبة.
صحيح أن فكرة الإنترنت كانت ثورية، لكنَّها لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية، بل كانت في البداية فقط، ولم تكن تَستحق الاستثمارات الهائلة.
هذا الوهم حوَّل الثورة الرقمية إلى كارثة مالية. لكن القصة لم تَنتهِ هنا؛ فقد كانت الفقاعة ضرورية، لأنها ساعدت شركات التكنولوجيا مثل Google وAmazon وFacebook، على بناء إمبراطوريات حقيقية، لكن هذه المرة على أساس متين، وليس على حُلم عائم.
التاريخ المالي لا يُعيد نفسه
يؤكّد الكتاب على فكرة جوهرية؛ وهي أن “التاريخ المالي لا يُعيد نفسه، لكنّه يُتقن فن التكرار بأسلوب مختلف”؛ فما حدَث في فقاعة الإنترنت يشبه ما يحدث اليوم في فقاعات العملات الرقمية، أو في موجات المضاربة على أسهم الذكاء الاصطناعي. نفس اللهفة، ونفس الأمل المبالَغ فيه.
على الصعيد العالمي، فقاعة “الدوت كوم” جاءت في فترة ازدهار عالمي بعد انتهاء الحرب الباردة، مع انفتاح الأسواق وتدفُّق رؤوس الأموال العالمية، وهذا الشيء سمح بنموّ سريع لأسواق المال. في الوقت نفسه، شهد الاقتصاد العالمي نموًّا في العولمة والتكنولوجيا؛ الأمر الذي خلق بيئة خصبة لنموّ الشركات الرقمية.
هذا الانفتاح والتدفُّق الكبير للسيولة في الأسواق بعد أزمة الركود في أوائل التسعينيات فتَح الباب أمام تكرار أخطاء سابقة.
اليوم، يعيش العالم ثورات رقمية جديدة، من الذكاء الاصطناعي إلى البلوكتشين والعملات الرقمية، ربما يحتاج العالَم أن يتذكر درس فقاعة الإنترنت؛ حتى لا تتكرَّر نفس الأزمة.
العقل البشري مُبرْمَج على الطمع، لكنّ التاريخ يُعلِّمنا أنّ كلّ ما يصعد بسرعة، لا بد أن يسقط بسرعة. فُقّاعة الإنترنت لم تكن فشلًا في التكنولوجيا بحدّ ذاتها، بل كانت فشلًا في الحكم الاقتصادي، والانبهار الساذج بكلّ ما هو جديد.
خلاصة الأمر: مع تقدُّم التكنولوجيا، وتغيُّر الاقتصاد العالمي؛ تبقى دروس الماضي حاضرة في الأذهان مرآةً للمستقبل. ربما علينا أن نقرأ “صعود المال” ليس فقط ككتاب عن التاريخ، بل خريطة لفَهْم كيف يمكن أن تتكرّر الأزمات، وكيف يُقلِّل الفَهْم العميق للأسواق من المخاطر في أزمات مقبلة.