مشاركة

في بداية خريف عام 1970م، كانت شوارع دمشق هادئةً، لكن خلف جدران القصر الجمهوري كانت ملامح مرحلة جديدة تتشكل. حافظ الأسد، ابن القرداحة يجلس على مقعد الحكم بعد سلسلة من الانقلابات والتحالفات والصراعات داخل حزب البعث.

 

كان يعي تمامًا أنه ليس ابن طبقة النُّخبة التي حكمت سوريا لعقود، بل هو قادم من الريف الذي طالما وُضِعَ على هامش السياسة، وهو اليوم يمسك بمقاليد دولة بأكملها.

 

هذه المفارقة لم تكن مجرد حدث سياسي عابر، بل هو تحوُّل اجتماعي عميق، سيترك آثاره داخل المجتمع السوري ولعقود طويلة.

 

تحوُّلات كبرى شهدتها سوريا بعد الاستقلال

إقصاء وتهميش النخب السياسية على يد حافظ الأسد؛ كان التغيير الاجتماعي والسياسي الأكبر الذي شهدته سوريا بعد الاستقلال، هذا التحوُّل الكبير رصده الكاتب الفلسطيني حنا بطاطو في كتابه “فلاحو سورية”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 1999، والذي رصد فيه التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها سوريا بعد الاستقلال، ودور حزب البعث في هذه التحولات.

 

بعد استقلال سوريا عام 1946، بدأت حركة سياسية واسعة، وتطور الوعي السياسي لدى عموم المجتمع، وكان مجلس الشعب له دور تشريعي فعَّال، وترافق التطور السياسي مع نموّ اقتصادي، لكنّ هذا الاتجاه واجَه صدمةً كبيرةً مع انقلاب حزب البعث ووصوله إلى السلطة عام 1963م، والذي عطَّل الحياة السياسية في الدولة، وقمَع باقي الأحزاب، وفي ذات الوقت عمل على بناء قاعدة شعبية، من خلال رفع شعار الحكم للعمال والفلاحين.

 

وبالفعل نجح في استقطاب أعداد كبيرة من الفلاحين، وناهَض الطبقات السياسية التقليدية، وتبنَّى شعار العدل والمساواة ومحاربة التمييز الطبقي، هذه الشعارات بقيت في الإطار النظري، بينما على أرض الواقع لم تُتَرْجَم لممارسات حقيقية.

 

التغير الاجتماعي والسياسي الذي قاده حزب البعث

لا بد من الاعتراف أنه بعد الاستقلال كان هناك نوع من التهميش السياسي للفلاحين، لكنّ حزب البعث لم يُعالج هذا التهميش ولم يُحقّق العدالة الاجتماعية، ما فعله هو نَقْل التهميش من كفة إلى أخرى، من خلال تهميش الطبقات السياسية التقليدية على حساب طبقة محددة من الفلاحين. وهذا ما أكَّده حنا بطاطو في إشارته لصعود طبقة الفلاحين في سوريا، وإن لم يعكس هذا الصعود كل هذه الطبقة، بل عكس جزءًا منها.

 

التغير الاجتماعي والسياسي الذي قاده حزب البعث كان له إسقاطات اقتصادية، من خلال الحرب العلنية على البرجوازية والإقطاع، وصوَّر هذه الفئات بأنها معادية للشعب، وصادَر أملاك الإقطاعيين ووزَّعها على الفلاحين، وتم مصادرة أملاك الصناعيين.

 

وهذا الأمر أدى لصدمة حادة في الاقتصاد السوري، ففي عام 1965م وحده، تم الاستيلاء على 115 شركةً خاصةً تحت شعار الاشتراكية والتأميم، وتم إغلاق كل البنوك الخاصة، وبذلك تعطلت الحياة الاقتصادية والسياسية في سوريا.

 

بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970م، حدث تغيير جديد في المشهد الاجتماعي والسياسي السوري وفي حزب البعث أيضًا كان هناك تغيُّر واضح. وهذا ما أشار له حنا بطاطو في قوله: “هناك اختلاف جوهري بين بعث الأسد وبعث ما قبله. لكن الأسد لم يُغيِّر الشعارات، على العكس زاد من الاهتمام الشكلي بالفلاحين، لكن على أرض الواقع لا يوجد شيء، وبعدما كان البعث قبل عام 1970 حزبًا للفلاحين صار في عهد الأسد حزبًا للعلويين، وتحول الولاء من الولاء الاجتماعي إلى الولاء العائلي والطائفي والمناطقي. وأصبحت المناصب القيادية في الجيش وأجهزة الأمن تتم وفق اعتبارات الولاء الطائفي. حتى على مستوى الاقتصاد تم القضاء على البرجوازية الوطنية مقابل صعود برجوازية حديثة داعمة للأسد”.

 

نظام اجتماعي وسياسي جديد

النظام الاجتماعي والسياسي الجديد الذي أسسه الأسد الأب، وجعل نظام الحكم قائمًا على طبقة من الفلاحين ذات خلفية طائفية ومناطقية محددة، هذا النظام كان يبدو شديد التماسك من الداخل، لكنَّه هشّ أمام الأزمات الكبرى. وعلى الرغم من أنه كان من لون واحد تقريبًا، لكنّ هذا الانسجام الشكلي لم يمنع الانقسامات الداخلية، وهو ما ظهر بشكل واضح في صراع حافظ الأسد مع أخيه رفعت في الثمانينيات.

 

وهذا الصراع أيضًا كرَّس الانقسام الاجتماعي ليس في سوريا فحسب، بل على مستوى الطبقة الموالية للنظام. وهذا الطرح أكده حنا بطاطو بالإشارة إلى الصراعات الداخلية والخارجية التي نجح الأسد في إدارتها لصالحه، ففي تلك الفترة حاول رفعت الأسد الانقلاب على أخيه، وانقسم الجيش بين الأخوين، ما يؤكد أن ولاء الجيش لم يكن وطنيًّا، بل كان عائليًّا.

 

التهميش الواضح والتغيير الكبير الذي قاده الأسد وإقصاء الأكثرية مقابل تسليم مقاليد الحكم للأقليات، قابلته حركات احتجاج، قابلها النظام بقمع وإبادة جماعية، ومنها مجزرة مدينة حماة في عام 1982م، والتي أسفرت عن استشهاد عشرات الآلاف، حركات الاحتجاج هذه كانت بمثابة وعي مبكر لخطورة التغيرات التي يقوم بها النظام على مستقبل الدولة والمجتمع.

 

التغيير الكبير الذي قاده حافظ الأسد، هو أحد أهم الأسباب التي ساعدت النظام البائد على الصمود لمدة 14 سنةً أمام الثورة السورية؛ لأن الولاء الطائفي والعائلي الذي بناه الأسد الأب استفاد منه الأسد الابن، ومنع النظام من الانهيار السريع، لذلك يمكن القول بأن الجذور الأولى للأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهت المجتمع السوري عشية الثورة السورية لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود لعدة عقود، وهي نتيجة لتراكمات اجتماعية واقتصادية قادها النظام البائد.

 

مكونات بنية النظام البائد

بنية النظام البائد كانت تقوم على عدة مستويات؛ مستوى اقتصادي قائم على نهب ثروات الدولة، ومستوى اقتصادي يعتمد على طبقة من رجال الأعمال تسيطر على القطاع الخاص أمثال رامي مخلوف، ومستوى أمني من خلال شبكة مترابطة من أجهزة الأمن، ومستوى عسكري يعتمد على مئات آلاف الجنود، هؤلاء الجنود ينتمون في غالبيتهم إلى طبقة الفلاحين، والذين حرص النظام على عدم دعمهم اقتصاديًّا؛ بحيث يبقى الجيش مصدر دخلهم الوحيد، ويضمن ولاءهم الطائفي، وهذا ما أكَّده حنا بطاطو في إشارته لصعود دور الفلاحين وارتباط مصيرهم بمصير الأسد نفسه، طبعًا هذا الأمر لا يشمل كل فلاحي سورياـ بل يقتصر على انتماءات طائفية ومناطقية محددة.

 

نظام الأسد الذي حكم سوريا أكثر من نصف قرن، غالبيتها كانت مستقرةً سياسيًّا وأمنيًّا باستثناء أحداث الثمانينيات وفترة الثورة السورية، هذه المدة الطويلة في الحكم كانت نتيجةً مباشرةً لتغيرات جذرية في بنية السلطة في سوريا، سبقها تغيرات في بنية المجتمع السوري، تتمثل في تهميش وإقصاء النخب السياسية السورية، وإقصاء طبقة التجار والبرجوازية وعزلها عن الحياة السياسية، في مقابل صعود طبقة فلاحين وفق معايير طائفية واجتماعية محددة.

 

هل يمكن محو آثار نظام الأسد بسهولة؟

على الرغم من سقوط نظام الأسد، إلا أن التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قام بها على مدى أكثر من خمسة عقود لا يمكن محو آثارها بسهولة، ولعل الاضطرابات التي شهدتها السويداء والساحل السوري تُعدّ امتدادًا لتلك التغيرات.

 

وإعادة التوازن للمجتمع السوري ومنح المكونات الاجتماعية دور سياسي يتناسب مع ثِقَلها الحقيقي يُعدّ التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة الجديدة، ويتطلب تعاونًا من الحكومة والمجتمع ومنظمات المجتمع المدني، من خلال ترسيخ ثقافة الولاء الوطني بعيدًا عن الولاء الطائفي أو المناطقي.

 

في النهاية، الثورة السورية التي انطلقت عام 2011م، والدمار الهائل الذي سببه النظام البائد، لا يمكن اختصار أسبابه بمطالب اقتصادية أو سياسية، بل كان نتيجةً مباشرةً لتغيرات حادة وخطيرة في المجتمع السوري، تم تنفيذها على مدار عقود، والثورة السورية في أحد أوجهها كانت سعيًا لإعادة استقرار المجتمع وفق منطق التاريخ بعيدًا عن مصالح الطبقة السياسية المتمثلة بالنظام البائد.

 

 

مشاركة