تقف تركيا على أعتاب انتخابات رئاسية يفصلنا عنها أقل من عام ونصف. ووفقاً للمعطيات الحالية فإن المنافسة فيها لن تكون سهلة. ومن الواضح أن الاقتصاد ومؤشراته ستكون حاضرة وبقوة وسيكون لها كلمة الفصل في حسم النتائج بين حزب العدالة والتنمية وبين المعارضة. والسؤال هنا: هل يستطيع العدالة والتنمية تطويع الاقتصاد أم سيكون أداة تستخدمها المعارضة ضده؟
يرتبط الاقتصاد بالسياسة برابط عضوي متين. فلا يمكن فهم أيّ منهما دون فهم الآخر فهماً تاماً. فالأحداث السياسية غالباً ما تكون مدفوعة بمؤشرات اقتصادية. وهذا الأمر ينسحب بشكل مباشر على تركيا. فالشعبية الواسعة للرئيس أردوغان خارج حدود تركيا تعود لمواقفه السياسة التي غالباً ما توصف بالجريئة. أما شعبيته الداخلية فللاقتصاد الكلمة الفصل بها.
تمكّن حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوعان من البقاء في الحكم خلال استحقاقات عديدة. وذلك من بوابة الاقتصاد. فخلال عهده شهدت البلاد نهضة اقتصادية واضحة. وانتعشت الطبقة الوسطى بشكل واضح. وارتفع مستوى الأجور وانخفضت البطالة وغيرها من المؤشرات الإيجابية. وكل هذا جعل من أردوغان بطلاً قومياً بالنسبة لغالبية الأتراك.
في ظل الانتعاش الاقتصادي الذي حقّقه أردوغان تمكن حزب العدالة والتنمية من الخروج من تحديات عديدة. أولها استحقاقات انتخابية عدة. والأهم خروجه منتصراً من محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016م والتي أظهرت مدى شعبية أردوغان الداخلية. اللافت حينها أن جزءاً من المعارضين وقفوا ضد محاولة الانقلاب. وبالتأكيد فإن السبب الاستقرار الاقتصادي الذي جلبه أردوغان لتركيا.
مع بداية عام 2018م بدأت تظهر الأزمات الاقتصادية في تركيا. وبعضها كان كامناً وأظهرته الأحداث السياسية. ومع بدء خسارة بعض المكاسب الاقتصادية كالاستقرار النقدي وتراجع الناتج المحلي الإجمالي وعجز الميزان التجاري. بالإضافة إلى خروج بعض الاستثمارات الأجنبية من البلاد بدأ ينكشف ظهر حزب العدالة والتنمية أمام المعارضة.
كما حصد حزب العدالة والتنمية ثمار التنمية الاقتصادية بدا أنه سيدفع ثمن التراجع الاقتصادي. ولعل خسارة الحزب لولايتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية عام 2019م كانت دليلاً على أن الولاء الحقيقي في عالم السياسة لا يكون إلا للإنجازات. فالنتائج التاريخية تبقى تاريخاً. والناس بحاجة وبشكل مستمر لإنجازات جديدة.
شهد الاقتصاد التركي بمختلف مؤشراته خلال العامين السابقين تراجعاً واضحاً. وإن كان النصف الثاني من عام 2021م الأكثر سوءاً. فقد خسرت الليرة التركية ما يقارب 90% من قيمتها. كما شهد التضخم ارتفاعاً حاداً. فبلغ في يناير الفائت 11.1% على أساس شهري و 48.69 على أساس سنوي. وهو أعلى معدل يصله التضخم خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية.
سبب التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية تراجعاً ملحوظاً في متوسط الأجور السائدة. فالحد الأدنى للأجور انخفض من 450 دولار في مطلع عام 2021م إلى 315 دولار في مطلع عام 2022م. وهو ما سبّب ضغطاً اقتصادياً لا سيما على الطبقة الوسطى التركية.
تدرك المعارضة التركية جيداً أن الاقتصاد المدخل الحقيقي للسياسة. ولذلك وفي ذروة التراجع الاقتصادي التركي طالبت بانتخابات رئاسية مبكّرة لاستثمار الأزمة الاقتصادية. على أمل تحقيق خرق حقيقي في الانتخابات. وهو ما لم تنجح به.
في الواقع يعد الرئيس أردوغان ذا خبرة سياسية واسعة. وبالتأكيد ما كان ليُقدِم على خطوة تخفيض سعر الفائدة والتي ساهمت بتعزيز تدهور الليرة ما لم يكن متأكداً من نتائج هذه السياسة. لا سيما أنها تأتي في وقت حرج قبيل موعد الانتخابات الرئاسية.
بالطبع تحتاج السياسة الاقتصادية التي اتبعها أردوغان لفترة متوسطة حتى تعطي ثمارها. وهذه السياسة ليست تقليدية. فالعرف الاقتصادي يقول برفع معدلات الفائدة لمعالجة التضخم. إلا أن الرئيس التركي أصرّ على خفضها. وفي حال نجاح سياسته يمكن وصفها بالسابقة الاقتصادية. ومن شأنها تغيير بعض القناعات الاقتصادية السائدة.
ولذلك تعد الفترة المقبلة حاسمة لتحديد فرص حزب العدالة والتنمية في الفوز بولاية رئاسية جديدة. ففي حال استمر التضخم بالارتفاع ولم تتمكن الحكومة من وضع حد له فإن المعارضة ستسعى جاهدة لاستثماره سياسياً. أما في حال نجاح السياسة الاقتصادية لأردوغان فهذا يعني ارتفاع حظوظه بالفوز. إضافة لتعزيز صورته كبطل قومي.
في النهاية تقوم السياسة على الإنجاز. والولاء الحقيقي هو ولاء للإنجاز وليس للأشخاص. فالعديد من الحكومات الإسلامية سقطت انتخابياً في مجتمعات متدينة بسبب عجزها عن تحقيق وعودها. فالشعوب ميّالة لدعم مَن يدعمها اقتصادياً. وحزب العدالة والتنمية خلال العام الحالي أمام تحدٍ كبير لإثبات صحة سياساته الاقتصادية أمام الأتراك.