مشاركة

في ستينياتِ القرنِ الماضي، كانتْ واشنطن واثقةً أنَّ حربَ فيتنام لنْ تستغرقَ سوى أَشْهُرٍ قليلةٍ. أقوى جيوشِ العالَمِ، أحدثُ الأسلحةِ والتكنولوجيا، في مواجهةِ بلدٍ صغيرٍ مُمزَّقٍ. الحكومةُ الأمريكيةُ وَعَدَتِ الشعبَ بنَصْرٍ سريعٍ، وأنَّ الآلةَ العسكريةَ الأمريكيةَ قادرةٌ على حَسْمِ المعركةِ. لكنَّ ما حدثَ كان عكسَ ذلكَ تمامًا: حربٌ امتدَّتْ عقدَيْنِ كامِلَيْنِ، قُتِلَ فيها الآلافُ، وصارتْ صُوَرُ القُرَى المُحتَرِقَةُ وَصَوْتُ المروحياتِ رمزًا لحربٍ لا تنتهي. عندما انسحبتْ أمريكا في النهايةِ عامَ 1973، كانت قد خسرتِ المعركةَ وخسرتْ معها صورتهَا كقوةٍ لا تُقْهَرُ.

حربُ فيتنام لم تكنْ مُجرَّدَ صراعٍ محلِّيٍّ، بل هي درسٌ مريرٌ عن وَهْمِ الانتصاراتِ السريعةِ، وَهْمٌ يتكرَّرُ حتى اليومِ.

هذه المَشَاهِدُ يرويهَا الفريقُ الأولُ الركنُ نزار الخزرجي، رئيسُ أركانِ الجيشِ العراقيِّ الأسبقِ وهو يَصِفُ الحربَ العراقيةَ الإيرانيةَ، في كتابِهِ الصادرِ عام 2015 بعنوانِ “الحربُ العراقيةُ-الإيرانيةُ: مذكراتُ مقاتلٍ”. هذا الكتابٌ يكشفُ لأولِ مرةٍ تفاصيلَ تلك الحربِ من قلبِ الميدانِ ومنْ غُرَفِ القيادةِ العليا؛ حيثُ عاشَ المُؤلِّفُ كقائدِ فِرْقَةِ مشاةٍ ثمَّ كرئيسٍ للأركانِ. الكتابُ ليسَ فقط يوميات حربٍ، بل شهادةٌ حيَّة كيف تتحوَّلُ النزاعاتُ إلى دوَّامَةِ استنزافٍ، وكيفَ أنَّ الأوهامَ بالانتصارِ السريعِ قدْ تُدْخِلُ الدُّوَلَ في صراعٍ لا يَعْرِفُ النهايةَ.

لو تَرَكْنَا صفحاتِ الكتابِ قليلًا، وألقَيْنَا نظرةً على نشراتِ الأخبارِ اليومَ، سنشعرُ وكأننَا نشاهدُ نسخةً جديدةً من تلكَ الحربِ، لكنْ بأسماء وأماكن مختلفةٍ كأنه حاضرٌ يُكرِّرُ الماضي.

في أوكرانيا مثلًا، عام 2022م، دخلتِ القواتُ الروسيةُ مُعتقِدَةً أنَّ العمليةَ ستُحْسَمُ خلالَ أيامٍ. لكنَّ المشهدَ أخَذَ شكلًا آخرَ: مدنٌ مُدمَّرةٌ، حركةُ نزوحٍ بالملايين، واستنزافٌ اقتصاديٌّ، وفرضُ عقوباتٍ لا يتوقفُ، وعزلةٌ دوليةٌ.

وإذَا ما اتَّجَهْنَا نحوَ الجزيرةِ العربيةِ، نجدُ المثالَ الأوضحَ في اليمنِ. عمليةٌ عسكريةٌ محدودةٌ عامَ 2015م سرعانَ ما تحوَّلَتْ إلى حربٍ مفتوحةٍ تتشابكُ فيها المصالحُ الإقليميةُ والدوليةُ. الجبهاتُ تتغيَّرُ باستمرارٍ، والدعمُ الخارجيُّ يتدفَّقُ، لكنَّ الثمنَ الحقيقيَّ يدفعُهُ المجتمعُ اليَمَنِيُّ. واليمنُ اليومَ يعيشُ واحدةً من أعنفِ الأزماتِ الإنسانيةِ والاقتصاديةِ في العالَمِ: ملايينُ المواطنين هناك بحاجةٍ إلى مساعداتٍ إنسانيةٍ عاجلةٍ، والبِنْيَةُ التَّحتيَّةُ شِبْهُ منهارةٍ، والعُمْلةُ المحليةُ فقدتْ ثلاثةَ أرباعِ قيمتهَا منذُ اندلاعِ الحربِ، فيما تجاوزَ التضخُّمُ 30% في عام 2015م، واليمنُ السعيدُ لم يَعُدْ سعيدًا.

أمَّا غزةُ، فهي اليومَ أقربُ مثالٍ على ما يقولهُ الخزرجيُّ عن أوهامِ الحَسْمِ. إسرائيل بعد 7 أكتوبر دخلتِ الحربَ معتقدةً أنها ستَقْضِي على المقاومةِ في غضونِ أيامٍ؛ نظرًا لقُوّتهَا المتطورةِ ووعدتْ بحلٍّ عسكريٍّ سريعٍ، وتحريرِ الرهائنِ جميعًا. ولكنْ كما نرى، الحربُ على مشارفِ الدخولِ في عامهَا الثالثِ دونَ أيِّ حسمٍ أو تحريرِ رهائنَ؛ إلَّا عن طريقِ وساطاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ.

في السودان، اندلعتْ مُواجهاتٌ بين الجيشِ وقواتِ الدعمِ السريعِ في أبريل 2023. بدَأَ كصراعٍ محدودٍ في الخرطوم اتَّسَعَ ليُصْبِحَ حربًا تُمَزِّقُ البلادَ، والشَّعْبُ السودانيُّ يعاني من أزمةِ جوعٍ هي الأعنفُ في العالَمِ، وأدَّى الوضعُ لنزوحِ عددٍ كبيرٍ منَ السكانِ.

ما يُشْبِهُ اللحظةَ التي يرويها الخزرجيُّ حينَ تحوَّلَتْ “مناوشاتُ حدوديةُ” مع إيران إلى حربٍ شاملةٍ. البدايةُ دائمًا صغيرةٌ، لكنَّ النارَ سُرعانَ ما تكبُرُ.

ليبيا أيضًا ليستْ بعيدةً عنْ هذه الأحداثِ. منذ 2011م وبعدَ سقوطِ نظامِ القذاقي، وهي غارقةٌ في انقسامِ شرقٍ وغربٍ، كلُّ طرفٍ مدعومٌ خارجيًّا، والمعاركُ تتجدَّدُ بلا نهايةٍ. نسخةٌ مُكرَّرَةٌ من “حربٍ بالوكالةِ”، وأصبحتِ الأطرافُ الخارجيةُ والمرتزقةُ هم المستفيدين منْ ثرواتِ هذا البلدِ الغنيِّ، وأهلُهُ يُعانونَ منَ الفوضى والأزماتِ الاقتصاديةِ.

وحتى أفغانستان قدَّمَتْ مثالًا واضحًا في معاركِ الاستنزافِ: حربٌ أمريكيةٌ استمرَّتْ عَقْدَيْنِ كاملَيْنِ، ملياراتُ الدولاراتِ صُرِفَتْ، آلافُ الجنودِ قُتِلُوا. وفي النهايةِ، عادتْ طالبان كما كانتْ، بل أقوَى سياسيًّا وعسكريًّا. هذا المشهدُ ليسَ مجردِ تفاصيلِ حربٍ بعيدةٍ؛ بل هو انعكاسٌ لنفسِ المعادلةِ: النصرُ العسكريُّ، إذا لم يُرافِقه حلٌّ سياسيٌّ شاملٌ، لا يُساوِي شيئًا.

الكتابُ يكشفُ لنا أنَّ الحربَ العراقيةَ الإيرانيةَ لم تكنْ مُجرَّدَ معاركٍ حدوديةٍ، بل هي نموذجٌ كاملٌ يُوضِّحُ أنَّ البدايةَ كانت بقرارٍ استباقيٍّ ظنَّ القادةُ أنهُ سيَحْسِمُ الموقفَ سريعًا، لكنَّ النتيجةَ كانتْ حربَ استنزافٍ هي الأطولُ في تاريخِ الشرقِ الأوسطِ الحديثِ. هذه النقطةُ تحديدًا تجعلُ الكتابَ مرآةً لواقعنَا اليومَ، فما نراهُ في كثيرٍ منَ الدولِ سبقَ ذِكْرُهَا ليسَ إلَّا تكرارًا لذلك السيناريو: أوهامُ الحَسْمِ السريعِ، ثم طُولُ النزاعِ، نجدُ نفسَ الملامحِ في كييف أو غزة اليومَ. وعندمَا نتحدَّثُ عن كيف استَنْزَفَتِ الحربُ البِنْيَةَ التَّحتيَّةَ والاقتصادَ، يمكن أنْ نُسْقِطَ ذلك مباشرةً على صنعاء أو الخرطوم.

في الحروبِ الطويلةِ وبينمَا الجيشُ يستنزفُ قُوَاهُ في الجبهةِ، يتحمَّلُ الشعبُ أعْبَاءَ شُحِّ الموادِّ الغذائيةِ، والانقسامِ الداخليِّ، وتداعياتِ الحربِ المختلفةِ. هذه التفاصيلُ تُعيدُنَا إلى الصورةِ الحيَّةِ في اليمن أو ليبيا؛ حيثُ تستمرُّ الجبهاتُ مشتعلةً بينمَا المجتمعُ ينزفُ بصمتٍ.

الخزرجيُّ يُلخِّصُ الفكرةَ بوضوحٍ؛ كلُّ نَصْرٍ كانَ يَفْتَحُ الطريقَ لمعركةٍ جديدةٍ، وكأنَّ النهايةَ سرابٌ يبتعدُ كلَّمَا اقتربنَا منهُ. وهنا يظهرُ الربطُ المباشِرُ مع الحروبِ الحديثةِ حيثُ إنَّ الانتصاراتِ التكتيكيةَ لا تَصْنَعُ نهايةً، ما لمْ تترافقْ مع رؤيةٍ سياسيةٍ.

خلاصةُ الأمرِ.. الحربُ العراقيةُ الإيرانيةُ لم تكنْ فقطْ نزاعًا بين بلدَيْنِ، بل هي درسٌ مفتوحٌ في خطورةِ إطالةِ الصراعاتِ. ويبدُو أنَّ العالَمَ لم يتعلَّمْ من عشراتِ الدروسِ.

حروبُ الاستنزافِ تُرْهِقُ الدولَ والشعوبَ، وتزيدُ الضغوطَ الاقتصاديةَ، وحتى إذا انتهتْ بانتصارٍ، سوف يكون نصرًا بطعمِ الهزيمةِ، مع اقتصادٍ مُدمَّرٍ وشعوبٍ فقيرةٍ ودُوَلٍ مُنْهَكَةٍ.

إلى اللقاء.

 

 

أوهام حَسْم الحروب السريع

 

إنفوجراف

  • ما بدأ كعملية عسكرية محدودة في اليمن سرعان ما تحوّل إلى حرب مفتوحة
  • حرب غزة على مشارف دخول عامها الثالث دون أيّ حسم أو تحرير رهائن
  • السودان يعاني من مجاعة هي الأعنف في العالم
  • النصر العسكري إذا لم يترافق مع حلّ سياسي شامل، لا يساوي شيئًا
  • حروب الاستنزاف تُرْهِق الدول والشعوب، وتزيد الضغوط الاقتصادية

 

ملخص الحلقة

الحرب العراقية الإيرانية تكشف كيف تتحوَّل الأوهام بالنصر السريع إلى استنزاف طويل. اليوم، المشهد يتكرر في أوكرانيا، اليمن، غزة، السودان، ليبيا وأفغانستان؛ حيث تبدأ النزاعات بوعود الحسم، ثم تنزلق إلى حروب بلا نهاية. النتيجة واحدة: اقتصاد منهار، نزوح جماعي، وشعوب عالقة في دوامة الخراب.

 

مشاركة



عن المقال

  • يحيى السيد عمر