“في السياسة كما في الشطرنج.. لا يكفي أن تُخْرِج قِطعةً من الرُّقعة، دون أن تَعرف أيّ قطعة ستحل مكانها”
في يونيو 2016، صوَّت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، في لحظة فُسِّرت حينها على أنها ضربة مُوجِعَة لتماسُك الاتحاد. لكنْ مع الوقت، تبيَّن أن الخروج لم يترك فراغًا فقط، بل غيَّر قواعد اللعبة، وفتَح لتركيا أبوابًا لم تكن مُشْرَعَة مِن قَبْل.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انشغلت أوروبا الغربية بترتيب بيتها الداخلي، والتعامل مع تداعيات اقتصادية وبيروقراطية مُعقَّدة. في المقابل، كانت تركيا تتحرَّك بهدوء: تُوقِّع اتفاقيات دفاع، واتفاقيات تجارية مع دُوَل مثل ليبيا وقطر وأذربيجان، وتملأ الفراغات السياسية في أوروبا بصمتٍ.
بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، وُجِدَتْ فجوة لم يكن أحد يملأها إلا تركيا. وتحولت أنقرة إلى شريك اقتصادي وسياسي وإستراتيجي لبروكسل. زيارات أردوغان الرسمية إلى ألمانيا كثُرت، واللقاءات مع ماكرون لم تتوقَّف، حتى وجدت تركيا نفسها لاعبًا حاسمًا في أعقد ملفات الناتو: انضمام السويد.
كانت إنجلترا تُوازن النفوذ الألمانيّ الفرنسيّ داخل بروكسل. وبخروجها عن الاتحاد أصبح لأنقرة مساحة تفاوُض أوسع مع الدول الأوروبية منفردةً، مما عزَّز نفوذها في ملفات الهجرة والطاقة والأمن، كما ظهر بوضوح في اتفاقية اللاجئين المُوقَّعة مع الاتحاد عام 2016م، والتي شكَّلت نموذجًا لكيفية استخدام تركيا لأوراقها الإستراتيجية.
وفي 2019، قفزتْ تركيا بحزمٍ إلى خريطة الغاز الإقليميّ بتوقيعها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وهي خطوة أثارت جدلًا أوروبيًّا واسعًا، لكنها نُفِّذت دون عرقلة.
وفي أغسطس 2020م، سجَّلت أنقرة اكتشافات غاز كبيرة في شرق المتوسط والبحر الأسود، عزَّزت موقعها كقوة طاقة ناشئة، في وقتٍ كانت أوروبا تبحثُ عن بدائل للغاز الروسي بعد اندلاع حرب أوكرانيا… كلّ ذلك دون أن تكون تركيا عضوًا في الاتحاد، لكنَّها أصبحت قوة قادرة على التأثير دون الحاجة إلى بطاقة عضوية.
خلاصة القول: تركيا اليوم ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لا تُصوِّت في بروكسل، لكنها تُستدعى في الأزمات. لا تقود السوق الأوروبية، لكنّها تُمسك بخيوط الغاز والجغرافيا وبعض أوراق الأمن. لقد أصبحت شريكًا سياسيًّا لا غِنَى عنه.. حتى دون أن يكتمل حُلم الانضمام الرسمي.
يبقى السؤال: هل تحوَّل خروج بريطانيا إلى هدية إستراتيجية منحت أنقرة فرصة لا تُعوَّض؟ أم أنها مجرد لحظة مؤقتة قبل أن تعود التوازنات إلى ما كانت عليه؟