مشاركة

في عام 1944، اجتمع ممثلو 44 دولة في منطقة بريتون وودز الأمريكية لوَضْع قواعد النظام المالي العالَمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية.

في ذلك المؤتمر، خرج الدولار الأمريكي منتصراً بلا منازع؛ حيث تقرَّر رَبْط كلّ العملات بالدولار، بينما يظلّ الدولار وحده قابلاً للتحويل إلى ذهب، بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة الواحدة. ومن يومها، صار الدولار ليس فقط عُملة أمريكا، بل عُملة العالم.

الزمن تغيَّر. وما كان ثابتاً بدأ يتهدّم أمام عوامل جيوسياسية واقتصادية وتقنية متراكمة. اليوم، تتصاعد الأسئلة من جديد: هل بدأ العدّ التنازلي لانهيار الدولار؟ وهل ما يزال “الملك الأخضر” يحكم الأسواق كما في السابق؟

لنبدأ من الأرقام. الدولار لا يزال يُستخدم في أكثر من 80% من التبادلات التجارية العالمية، ويُشكّل نحو 57.8% من احتياطات البنوك المركزية حول العالم في 2024م. لكنَّ هذا الرقم كان 71% في عام 1999. أي: أن الحصة السوقية للدولار تتآكل بهدوء.

لكن ما هو السبب؟

أولاً، تصاعُد التوترات الجيوسياسية. بعد استخدام واشنطن سلاح العقوبات المالية ضد دول مثل روسيا وإيران وفنزويلا، بدأت هذه الدول تبحث عن بدائل تُمكّنها من النجاة من “الهيمنة المالية” الأمريكية. روسيا والصين، مثلاً، انخفض اعتمادهما على الدولار في تسوية تجارتها الثنائية لصالح عملتيهما الوطنية. ففي 2024م نحو 92% من التجارة بين البلدين أصبخت تُسوَّى بالروبل واليوان.

ثانياً، تنامي التكتلات الإقليمية. مجموعة “بريكس” (التي تضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا)، وسَّعت عُضويتها في 2024 لتضم دولاً مثل السعودية ومصر والإمارات وإيران، وبدأت نقاشات جادَّة حول إطلاق عُملة رقمية مُوحَّدة تُستخدَم في التبادل بين الدول الأعضاء. والهدف المُعلَن؟ هو تقليل الاعتماد على الدولار.

ثالثاً، دخول العُملات الرقمية السيادية على الخط. الصين أطلقت رسمياً اليوان الرقمي، وتَستخدمه الآن في مشاريع تجريبية تشمل ملايين المستخدمين. حتى نهاية عام 2021، افتتحت الصين 261 مليون محفظة إلكترونية. وإذا نجح هذا النموذج، فقد يُغيّر قواعد اللعبة، خصوصاً في الاقتصادات الناشئة الباحثة عن بدائل مَرِنَة ومستقلة.

الولايات المتحدة لا تزال تملك أكبر اقتصاد في العالم، بقيمة تقارب 26.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2023، وأسواقها المالية هي الأقوى والأكثر سيولة، وقد احتفظت بمكانتها أيضاً في 2024م؛ حيث بلغ ناتجها المحلي 28.78 تريليون دولار، والأهم: لا توجد حتى الآن عملة بديلة تملك الثقة، والانتشار، والاستقرار الكافي لتَنتزع العرش من الدولار.

اليورو يعاني من مشاكل سياسية داخل الاتحاد الأوروبي وتفاوتات اقتصادية.

اليوان يخضع لرقابة مشددة من الحزب الشيوعي الصيني، ولا يتمتع بالشفافية المطلوبة.

العملات الرقمية لا تزال في طَوْر التجربة ومحفوفة بتقلبات حادة.

لكن هناك إشارات مقلقة. حجم الدَّيْن الأمريكي يتجاوز 34 تريليون دولار في 2024، وتخطى الـ36 تريليون في الربع الأول من 2025. والكونغرس يُواصل رَفْع سَقْف الدَّيْن بدلاً من كَبْحِه. وإذا فقدت الأسواقُ الثقةَ في قدرة أمريكا على إدارة دَيْنها، فقد تتَّجه الأنظار إلى عملات أكثر استقراراً، أو إلى الذهب، أو حتى إلى العملات الرقمية المدعومة بالأصول.

وفي ظل المخاوف المتعلقة بالعملة، عادةً ما يتمّ التوجُّه للذهب كمعدن نَفِيس تسعى الحكومات والأفراد للحصول عليه، ولتحقيق أفضل استثمار آمِن به. فَوَفْق بيانات مجلس الذهب العالمي سجَّل إجمالي الطلب على الذهب عام 2023م أعلى مستوى على الإطلاق، مع وجود تسارع كبير في الاحتفاظ بأطنان الذهب من البنوك المركزية على مستوى العالم؛ والسبب هو التغيُّرات الجيوسياسية المتسارعة.

السؤال هنا: هل بدأ العَدُّ التنازليُّ إذن؟ ربما لا يكون الانهيار وشيكاً، لكنَّه لم يَعُد مستحيلاً. المسألة اليوم ليست “متى ينهار الدولار؟” بل: هل يستمر في التآكل حتى يَفْقد تدريجياً مكانته، أم ينجح في التكيُّف؟

الجواب يرتبط بما ستفعله واشنطن داخلياً وخارجياً: هل ستُصلح نظامها المالي؟ هل ستُخفِّف من استخدام الدولار كسلاح سياسي؟ وهل ستسمح بنظام مالي عالمي أكثر تعددية؟

خلاصة الأمر: الدولار لا يزال متربعاً، لكنّ عرشه بات أقل استقراراً. العالم يتحَّرك، ببطء لكن بثبات، نحو “نهاية الهيمنة المطلقة”. قد لا نرى الانهيار غداً، لكننا نعيش فُصوله التمهيدية، حرفياً… دولاراً بعد دولار.

مشاركة



عن المقال

  • يحيى السيد عمر