يموج عالمنا الحالي بالفتن والصراعات. وتلهث به الحروب والنزاعات من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه. ناهيك عن التحديات والكوارث الطبيعية وما تخلفه وراءها من مآسٍ بشرية. الأمر الذي يجعل من العمل الإغاثي والإنساني زورق نجاة للبائسين وعروة أمل للمستضعفين. ولذلك تُعلق عليه آمال كبيرة وتُناط به مهام جسيمة. وحري به أن يكون كذلك وهو وليد الإنسانية وقرين مبادئها. لذلك كله جاءت هذه الدراسة للبحث في العمل الإغاثي والإنساني. متناولين جوانبه كافة مقلّبين ثناياه باحثين عن كل ما من شأنه تحسين هذا العمل السامي وسد ثغراته وتصويب عثراته.
يبرز العمل الإغاثي والإنساني في المجتمعات الحالية كإحدى ظواهر تميز حضارات هذه الأمم. ويأخذ هذا العمل أشكالاً متعددة. ابتداءً بتقديم الخدمات الإغاثية للمنكوبين. مروراً بالإنفاق على التعليم والصحة. وتقديم الخدمات الاجتماعية لرعاية كبار السن واليتامى والمشردين. وانطلاقاً من دور هذه الخدمات في استقرار المجتمعات تتعدد الدراسات المؤطرة للعمل الإغاثي والإنساني وضروبه المختلفة. ليكون انطلاقه على أساس علمي يستشرف آفاقه ويحلل أبعاده إيجاباً وسلباً. هذا على صعيد العمل الإنساني العالمي. أما على الصعيد العربي فإن ثمة غياباً لافتاً للدراسات العلمية المتعلقة بالعمل الإغاثي والإنساني. والتي تؤصل لهذا العمل وتشرح جوانبه المختلفة وعوائق تطوره. والمشكلات المتعددة التي تقف في طريقه. وعلاقة العمل الإغاثي والإنساني بالتنمية المجتمعية ونحو ذلك من قضايا ومناقشات.
بالإضافة إلى ذلك تسعى الدراسة إلى إلقاء الضوء على مفهوم العمل الإغاثي والإنساني بإطاره المؤسسي. والذي يتضمن الخدمات الإغاثية والإنسانية التي تقدمها مختلف المنظمات الإغاثية والإنسانية المحلية والإقليمية والدولية. فالإطار المؤسسي للعمل الإنساني هو الإطار الفعال. ففي واقعنا الحالي تنخفض فاعلية العمل الفردي. خاصةً مع اشتداد وتعاظم الكوارث الطبيعية والبشرية. ومع التزايد المطرد في أعداد المتضررين تظهر أهمية العمل المؤسسي القادر على النهوض بأعباء المهام الملقاة على عاتق المنظمات الإغاثية والإنسانية.
كما تتناول الدراسة مراحل التطور التاريخي للعمل الإغاثي والإنساني خلال العصور المختلفة. والحضارات المتلاحقة وصولاً للمفهوم الحالي فالعمل الإنساني ليس وليد اليوم ولا لحظة محددة ولا استجابةً لحدث ما. فلم تشهد حضارة ما غياب هذا المفهوم مع اختلاف وسائل وسبل القيام به. فغالبية الحضارات القديمة اعتمدت على دور العبادة والمعابد في تقديم الخدمات الإنسانية للمحتاجين. مروراً بالظهور المؤسسي له في منتصف القرن التاسع عشر. والتطورات المتسارعة التي صاحبته بعد الحرب العالمية الثانية. كنتيجة حتمية لتزايد ضحايا الصراعات والنزاعات والكوارث الطبيعية الناجمة عن التغيرات المناخية العالمية.
وتعرّج الدراسة كذلك على مصادر التمويل التي تعتمد عليها المنظمات الإغاثية والإنسانية لتغطية أنشطتها ومشاريعها وخدماتها. وتتطرق للمصادر الإسلامية في التمويل التي سنّها وشرعها الإسلام والتي ما تزال معتمدة في عصرنا الحالي. وتلقي الدراسة الضوء على المصاعب والعقبات التمويلية التي تعاني منها غالبية المنظمات الإنسانية في العالم. فالتمويل هو عصب العمل الإنساني. وغياب أو قصور هذا التمويل سيقود لا محالة لتراجع فاعلية هذا العمل.
وتؤصّل الدراسة فقهياً للعمل الإغاثي والإنساني. من خلال بيان موقف الإسلام من العمل الإغاثي والإنساني. والذي جاء في القرآن الكريم والسنة بصيغ شتى بعضها أمر به أو ترغيب فيه وبعضها نهي عن ضده أو تحذير منه.
وما من شك أن العمل الإغاثي والإنساني مرتبط بالديانات بشكل عام. لأنه يتلمس حاجات الناس ويسعى إلى تحقيقها في الحال والاستقبال. مما يحقق غاية مقصده فيما عرف في أصول الفقه بالضرورات الخمس. والتي اتفقت عليها جميع الشرائع السماوية. وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
وهنا ينعطف البحث إلى أهداف العمل الإغاثي والإنساني. من خلال التعرف على آثار تفعيل العمل الإغاثي والإنساني في المجتمعات ودورها في تحقيق التنمية والأمن للمجتمع. فالدول لا تتمكن دائماً من سد احتياجات أفراد المجتمع والاستجابة لهم في الوقت المناسب. وهو ما يبرز دور منظمات العمل الإغاثي والإنساني. لما تتميز به من مرونة وفاعلية وقدرة على الحركة والعمل في أصعب الظروف وأشد الأوقات.
إن انتشار العمل الإغاثي والإنساني في المجتمع يؤدي إلى إتاحة الفرصة للمواطنين لتأدية الخدمات بأنفسهم. مما يقلل من حجم المشكلات الاجتماعية. كما أن العمل الإنساني مؤشر على انتشار الجانب الإنساني في المجتمع. علاوة على تعميق روح التكافل بين الناس وتعزيز لانتماء الشباب ومشاركتهم في الفعاليات المجتمعية. فضلاً عن ميزة تنمية القدرات والمهارات الشخصية. وإتاحة الفرصة للتعرف على نظم الخدمات في المجتمع والتعبير عن آرائهم وأفكارهم في القضايا العامة.
وتشدد الدراسة على أهمية العمل الإنساني التي تكمن في كونه تعبيراً مهماً عن حيوية المجتمعات الإنسانية ومدى تقدمها. حيث ينظر إلى التقدم الإنساني للمجتمعات بمعيار حجم المنظمات الإنسانية وأعداد العاملين بها. كما تطوف الدراسة على أهمية أدوار الفاعلين الرئيسيين في مجال نشر العمل الإغاثي والإنساني والحث عليه. وخاصةً وسائل ووسائط الإعلام والمؤسسات والاجتماعية والتعليمية المختلفة ذات الدور الحيوي في جذب الشباب باتجاه مسالك العمل الخيري. إضافةً إلى تكوين شراكات قوية بين قطاع العمل الإنساني والمؤسسات الإعلامية لتحقيق أهداف تلك المؤسسات وبرامج عملها وأنشطتها. استناداً إلى العلاقة الإيجابية والتكامل في الدور المجتمعي لكلا الطرفين. ونشر الرسائل الإعلامية التي توفر المعلومات الصحيحة حول العمل الإنساني وأهميته. إضافةً إلى تنفيذ برامج وأنشطة مشتركة لتدريب كوادر المنظمات الإنسانية. ونشر ثقافة العمل الإنساني في المجتمع.
وتتعمق الدراسة في التأصيل والتفريع لمجالات العمل الإغاثي والإنساني المختلفة. مثل إغاثة المنكوبين وإيواء المشردين وإنقاذ المحاصرين وإنشاء المستشفيات والمراكز الطبية. بالإضافة إلى بناء المدارس وبرامج محو الأمية ورعاية المساجد والهيئات الإنسانية وتنظيم زيارات السجون والإصلاحيات الاجتماعية. وكذلك إقامة جلسات الإرشاد والنصح الاجتماعي وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات وتقديم الاستشارات القانونية والطبية وغيرها من المجالات.
هذا وللعمل الإغاثي والإنساني أخلاقيات وآداب يسعى هذا الكتاب إلى جمعها والتأكيد عليها. مثل الإخلاص والرحمة بالمستفيد والبعد عن المن على المستفيد مع الحرص على النزاهة والأمانة. بالإضافة إلى حفظ كرامة المستفيد واحترامه والموضوعية في توزيع المعونات دون تمييز والاحترام واللباقة وحسن السمت. وكذلك تنمية المصداقية والثقة لدى المتبرع وذوي الحاجة. وتتبع احتياجات المستفيد وعدم الاقتصار على ما يظهر من حاجته.
من جهة أخرى تشدد الدراسة على تقديم المساعدات وتوفير المعاملة الإنسانية لجميع الضحايا. دون أي تمييز ضار على أساس العرق أو الديانة أو الرأي السياسي أو الانتماء إلى طرف أو آخر من الأطراف في نزاع مسلح. كما يجب منح الأولوية لأولئك الذين يحتاجونها أكثر عند توفير المساعدة. ويقتضي هذا المبدأ ألا يقدم العمل الإنساني على أساس المساواة فحسب بل على أساس العدل أيضاً. اعتماداً على العوز وحجم الحاجات المحددة للأفراد والسكان المحتاجين والمتضررين. بحيث يؤذن للعاملين في المجال الإنساني بالتصرف بطريقة تمييزية معتمداً ذلك على أهمية الحاجات وضروراتها الملحة.
ولا تُغْفِل الدراسة تحليل معوقات العمل الإغاثي والإنساني في مختلف الدول. ممثلةً في الحروب والصراعات. وما يصاحبها من مصاعب وصعوبة تأمين الممرات الآمنة. واستهداف موظفي الإغاثة. بالإضافة إلى نقص العاملين وشح الموارد وعدم التنسيق بين منظمات العمل الإنساني. فضلاً عن التضييق الدولي على المنظمات التي تعمل في هذا المجال بحجة دعمها للإرهاب وغيرها من التحديات.
وفي هذا السياق يناقش الكتاب أبرز أسباب المعوقات التي تعود في جوهرها إلى تخوف الحكومات من المنظمات الداعمة للتطرف. والتي قد تعمل تحت ستار العمل الإنساني. وخاصةً مع انقسام المجتمع العالمي إلى مانح وممنوح دون مشاركة حقيقية في عملية البناء والتنمية. واقتصار الأهداف على مجال الإغاثة والإطعام والإيواء والدواء. والافتقار إلى التخطيط الاستراتيجي. بالإضافة إلى صعوبة وبيروقراطية التواصل بين المنظمات الدولية غير الحكومية.
وحثاً على نشر ثقافة العمل الإنساني وتعزيزه. تتناول الدراسة آفاق تطوير العمل الإغاثي والإنساني. من خلال الانضباط الشرعي. وإعداد الدراسات والبحوث الميدانية. والتخطيط والإبداع في العمل الإنساني. والتخصص في العمل المؤسسي الذي تغلب عليه النزعة الفردية على العمل المؤسسي المنظم. بالإضافة إلى حوكمة منظمات العمل الإغاثي. وزيادة الشفافية والمساءلة في منظمات العمل الإنساني.
إن العمل الإغاثي والإنساني وحجم الانخراط فيه يعد أحد العوامل المؤثرة في تراتبية الأمم والشعوب على مقياس الحضارة الإنسانية. بل إنه أصبح أحد الأسباب الرئيسة لنهضة الأمم وتقدمها والتي لا غنى عنها لأي مجتمع. باعتباره أحد متطلبات الحياة المعاصرة التي تتسم بأولوية التنمية والتطور السريع في كافة المجالات.
ومع تصاعد مشكلات الحياة وتأزم الظروف المعيشية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المتلاحقة. أصبح العمل الإنساني بأنواعه على المحك. وهو ما يستدعي إجراء المزيد من الدراسات والبحوث في هذا المجال لاستعادة الروح مرةً أخرى للعمل الإغاثي والإنساني.
ومن ثم تأتي هذه الدراسة في وقت تزايدت فيه المطالب الاجتماعية والفئوية في العديد من المجتمعات المحلية والعالمية. بما يشكل تهديداً على استقرار هذه الدول نفسها. على الصعيد المجتمعي. الأمر الذي يوجب إجراء المزيد من البحوث والدراسات التأصيلية والتطبيقية حول جهود العمل الإنساني. وكيفية الاستفادة منه في تنمية المجتمع. والقيام بالدور التكميلي لمؤسسات الدولة في بعض المجالات التي قد تتعثر فيها. وفقاً للضوابط والأحكام المرعية في ذلك الفضاء.
وقد أثبتت العديد من التجارب والخبرات السابقة فاعلية المشاركات الإنسانية في تحقيق الأهداف المجتمعية. في ضوء ما تتميز به المنظمات الإنسانية من مرونة كبيرة. وسرعة في إنجاز المهام المطلوبة منها. وهو ما يتطلب في المقابل مساعدة حكومية للقطاع الإنساني بتذليل العقبات التي قد تقف حجر عثرة أمام اضطلاعه بمهامه المنوطة به. وهو ما تشير إليه الدراسة في كثير من أجزائها.
ومن هنا تأتي هذه الدراسة لتناقش أهمية العمل الإغاثي والإنساني. وحاجة المجتمعات المعاصرة له. مع اكتشاف وعلاج المشكلات التي تؤثر عليه. مع التأكيد على ضرورة السعي لإقامة نهضة إنسانية. لا سيما في المجتمعات التي تشهد أزمات إنسانية حادة. وذلك بالإضافة إلى العمل على إشباع حاجات الأفراد بالمجتمع وتحقيق الأمن المجتمعي. ناهيك عن دور إضافي للعمل الإنساني والمتمثل بالثراء الثقافي. والذي يعد من أكثر المجالات التي يتم ممارستها في العمل الإنساني. والتي تترك المجتمع وقد أضيفت إليه روح من التميز والرقي وأيضاً من القوة والجمال.
مرات التحميل: 1410