في صيف عام 1981، قررت إسرائيل أن توجه ضربة استباقية لمفاعل “أوزيراك” بالقرب من بغداد، بعد تنامي قدرات العراق النووية. كانت الهدف الرئيسي للضربة الإسرائيلية وأد الحلم النووي في مَهْده، ومنع صعود أي قوة نووية في منطقة الشرق الأوسط.
وبحلول فجر الثاني والعشرين من يونيو عام 2025، يُعاد المشهد في دولة الجوار “إيران” لكن هذه المرة على يد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وجهت واشنطن ثلاث ضربات دقيقة للمنشآت النووية (نطنز، أصفهان، وفوردو) التي يرتكز عليها البرنامج النووي الإيراني.
أثارت الساعات التالية للضربة الأمريكية الكثير من التساؤلات حول مدى نجاحها، لا سيما بعد تضارب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نائبه. ففي الوقت الذي أطلق ترامب تصريحه الشهير “برنامج إيران النووي انتهى”، كانت لَهجة نائبه “جيه دي فانس” أكثر حذراً، واكتفى بقول: “عرقلة إلى حدّ كبير”، و”تأجيل طويل المدى”.
لقد كشف تباين التصريحات الأمريكية احتمالية تصدُّع البرنامج النووي الإيراني وليس إنهاءَه. في المقابل، لم تتأخر طهران في الرد حيث وصفت الضربات بأنها “عدوان على السيادة العلمية”. وليس هذا فحسب، بل اتجهت إيران إلى ربط مشروعها النووية بـ”الهوية الوطنية” في محاولة منها لإخراج المشروع من حيز التفاوض التقني إلى الحق التاريخي والكرامة السيادية.
ما زاد مستقبل البرنامج النووي الإيراني غموضاً، ما كشفت عنه وكالة “رويترز” حول نقل طهران غالبية اليورانيوم عالي التخصيب من منشأة “فوردو” إلى موقع غير معلوم قبل الضربات الأمريكية. علماً بأن إيران كانت تمتلك نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة.
لم تكن “رويترز” الوحيدة التي كشفت الأمر، بل نشرت صحيفة واشنطن بوست خبراً يفيد بالتقاط الأقمار الاصطناعية صوراً يوم 19 يونيو تُظهر نشاطاً غير عادي للشاحنات والمركبات في منشأة فوردو قبل الهجوم الأميركي. كما أقرت الولايات المتحدة بأنها “لا تعرف مكان وجود” هذه المواد الاستراتيجية عالية الأهمية لمستقبل سلاح نووي إيراني محتمل.
هذا الإعلان، إن صحّ، يُعيد ترتيب أوراق اللعبة ويجدد السؤال المطروح هل نجحت أمريكا في القضاء على البرنامج النووي الإيراني، أم نجحت إيران في خداع الغرب وطبّقت استراتيجية توزيع المخاطر منذ سنوات تحسباً لمثل هذا اليوم؟
الحقيقة أن إيران عازمة على المضي قدماً في برنامجها النووي مهما كلفها الأمر، وقد ظهر هذا جلياً قبل سنوات، عندما صرح رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي، بأن بلاده تُنتج ما بين 17 إلى 20 غرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20٪ كل ساعة في مفاعل فوردو النووي.
ظهرت المعضلة الأكبر في عجز الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تقييم حجم الدمار في “فوردو”، بعدما أقرّ المدير العام “رافاييل غروسي” بعدم امتلاك الوكالة أدوات دقيقة تناسب المنشآت المحصّنة بعمق 90 متراً تحت الأرض كـ”فوردر” والمتضمنة على الآلاف من أجهزة الطرد المركزي من الجيل السادس، القادرة على التخصيب بسرعة وكفاءة عالية.
اعتراف “غروسي” ليس تفصيلاً تقنياً فحسب، بل ناقوس خطر وفق الغرب، الذي يرى أن هذه الكمية الضخمة من اليورانيوم المخصب تقطع الطريق الطويل أمام الوصول إلى نسبة تخصيب تناهز 90% بسرعة أكبر حتى أنه يمكن إنجازها من خمسة إلى ستة أيام للحصول على مواد كافية لصنع قنبلة واحدة إذا ما اتُخذ القرار السياسي في طهران.
كما يرى الغرب أن نقل مخزون اليورانيوم المخصب إلى عدة “مواقع سرية” يعقد مراقبة هذه الاحتياطيات، أو التحقق منها في إطار آليات الرقابة الدولية.
ما يزيد المخاوف الغربية، إعلان إيران عن نيتها دراسة الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والذي يمنحها حرية أكبر في تطوير برنامجها النووي بعيداً عن أي قيود دولية.
المفاجأة هنا أن هذه المخاوف تتعارض مع المادة العاشرة من المعاهدة والتي تمنح الدول الأعضاء حق الانسحاب إذا وجدت أن مصالحها العليا مُهددة. أما عن المبررات، فإن استهداف إيران والتسريبات المتكررة لمعلوماتها النووية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أطراف معادية، يشجعها على المضي قدماً في دراسة قرارها، خاصة أن سبقها في ذلك كوريا الشمالية عام 2003.
تقف إيران اليوم عند مفترق طرق، والواضح من المعطيات الحالية أن برنامجها النووي لم يسقط من جذوره كما أعلنت واشنطن. أما التلويح بورقة الخروج من معاهدة الانتشار النووي ليست إلا أداة ضغط إستراتيجي، لاسيما أن قرار الانسحاب لا يزال محل تقييم داخل دوائر صنع القرار بها، وأن النقاش القائم الآن يدور عن توقيت الانسحاب المتعلق بتطورات المشهد.