في عام 1979، واجَه الاقتصاد الأمريكي تحدياً حقيقياً؛ التضخُّم كان يَلتهم ودائع المواطنين، حينها أدرك “جيروم فولكر” رئيس الاحتياطي الفيدرالي، أنَّ خَفْض الفائدة بسرعة سيكون بمثابة إشعال نار جديدة؛ فقرَّر رَفْعها لتقارب 22%، مُواجهاً غضب السوق بخيارات شجاعة بدلاً من المسكنات المؤقتة.
اليوم نعيش في لحظة مشابهة، إن لم تكن أشدّ؛ حيث يُواجِه الفيدرالي قراراً معقداً: متى يُخفِّض أسعار الفائدة؟ رغم ضغوط ترامب للتوسُّع النقدي السريع؛ فإن الواقع الاقتصادي يبدو متناقضاً.
المعادلة تتلخَّص في ثلاثة محاور: أولاً، قوة سوق العمل، ثانياً، التهديدات بفرض تعريفات جمركية، وثالثاً، الضغوط السياسية من ترامب نفسه على الاحتياطي الفيدرالي لتسريع التيسير النقدي، وهو ما يُهدِّد استقلاليته ويُعقِّد قراراته.
الفيدرالي الأمريكي يقف عاجزاً أمام خَفْض أسعار الفائدة، ليس بسبب غياب الإرادة؛ بل لأنَّ سوق العمل الأمريكي يُشكِّل عقبةً كبرى أمام تخفيض الفائدة، فقد أُضيف 147 ألف وظيفة جديدة، مع استقرار معدل البَطالة عند 4.1%، ما يدلّ على قوة الطلب الاستهلاكي، ويَزيد من وطأة الضغوط التضخمية، وهو ما يُثير قلق الفيدرالي بدلاً من أن يُريح أعصابه.
العامل الثاني هو تهديدات ترامب بفَرْض رسوم جمركية 30٪ على واردات من المكسيك والاتحاد الأوروبي اعتباراً من 1 أغسطس المقبل، وزادت التعريفات على البرازيل بما يصل إلى 50%، بسبب الملاحقات القضائية التي يتعرَّض لها الرئيس البرازيلي فضلاً عن النزاعات التجارية، وهو ما فرَض القيود على بعض المنتجات، مما يُثير حالة من الحساسية في الأسواق والاقتصادات المتبادلة.
وهنا يأتي العامل الثالث: مع اقتراب تاريخ الأول من أغسطس واقتراب فَرْض الرُّسوم الجمركية، تبدو الأسواق ضَعيفة ومُتخوِّفة، والفيدرالي اليوم يتابع تطورات السوق خطوةً بخطوة؛ فهو لا يتسرَّع كمَن يُسابق العاصفة، ولا يَندفع خَلْف مؤشرات التضخم بتهوُّر، بل يتريث ويراقب بحذر توقُّعات التضخُّم والنشاط الاقتصادي، متجنباً اتخاذ قرارات قد تَعْصِف بتوازُن السوق.
في ظل هذا الترقُّب من مسؤولي الفيدرالي الأمريكي؛ يدعو الرئيس ترامب لخَفْض سعر الفائدة في خطوة يراها مهمةً لتقليل تكلفة الديون ودعم الاقتصاد. لكن يبدو أنّ هناك حالة من الصراع القائم بين ترامب ورئيس الفيدرالي بين هذين التوجهين مما يُعقِّد الموقف الاقتصادي إلى حدّ كبير.
رئيس الاحتياطي الفيدرالي يُواجِه موقفاً بَالِغ التعقيد؛ لأنه إذا خفَّضَ الفائدة الآن، فقد يُحفِّز التضخُّم وتتضرَّر ميزانية مستهلكي الولايات المتحدة. أما إذا أخَّر خَفْضَه، فقد يَخْسر الأسواق وقد تَعْجز قطاعات عن مجاراة تكلفة الاقتراض المرتفعة. والسوق الآن أقرب إلى اختبار اقتصادي مُركَّب، بين حلقات الأخبار المضخمة بواسطة السياسة والتعريفات وتلك الأرقام الصلبة. فهل سيتخذ الفيدرالي القرار الشجاع كما فعَل فولكر؟ أم يَسِير بوتيرة أبطأ خشية إشعال النار؟
السياسة النقدية لا تُحكَم بخناق واحد، فهي مزيج من بيانات العمالة، وضُغوط الرسوم الجمركية، والسيناريو السياسي العالمي.
الفيدرالي الأمريكي لا يرفض خَفْض الفائدة، لكنَّه لا يتعجَّل اتخاذ القرار كذلك؛ فهو يُوازن بعناية بين المؤشرات الاقتصادية والضغوط السياسية، مدركًا أنّ أيّ خطأ قد يُكلِّف الأسواق استقرارها. فالقرار اليوم سيعكس لمن يحكم الاقتصاد في واشنطن: هل السياسة تسيطر على الأسواق؟ أم الأسواق تهيمن على السياسة؟