شَارِك المَقَال

 

في العُقُود الأَخِيرة من القَرْن العِشْرين وبِدَاية القَرْن الحادِي والعِشْرين صَحْوةً واضِحة، وبَدَأ الوَعْي بضَرُورة وُجُود نِظام اقتِصاديّ إِسْلاميّ في التَّزايُد، ورَافَقَ هذا الوَعْي قِيَام العَدِيد من #الفُقَهاء و #الاقتِصاديِّين بدِرَاسَة خَصائِصه وتَوْضيح آلِيَّات تَطْبيقه وتَنْميَته، فقلَّما تَخْلو بِيئَة إِسْلامِيّة من فُقَهاء تَناوَلوا #الفِكْر_الاقتِصاديّ_الإِسلاميّ.

 

وفي ظِلّ انْتِشار الفِكْر الاقتِصاديّ الإِسْلاميّ يَسعى العَديد لتَناوُل هذا الفِكْر تحليلًا وتَوْصيفًا، وتختلِف وتَتبايَن مَناهِج البَحْث وطُرُق تَناوُل هذا الفَكْر، فمِنها ما هو قائِم على مَنْهجِيات البَحْث الاقتِصاديّ وأُخْرى على مناهِج البَحْث الإِسْلاميّ، أو مَناهِج خَلِيطة بين المَنْهجَيْن السابِقَيْن، إضافةً لتَناوُل البَعْض هذا الفِكْر بطُرُق غير عِلْميّة لا تَستنِد على أيّ دَليل أو مَنْهجيّة واضِحة.

 

السيِّد مُحمَّد أَمِير نَاشِر النِّعَم، كتَب مَقالًا يَتناوَل فيه تاريخ نُشُوء #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ، إلَّا أنَّ المَقال يحتَوِي على بَعْض المُغالَطات الَّتِي قد تُؤدِّي إلى سُوء فَهْمٍ لحَقِيقة #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ، عِوَضًا عن أنَّ المقال كانَ بَعيدًا عن المَنْهجيّة العِلْميّة، إذ اسْتَنَدَ إلى أَفْكَار بِلَا أيّ دَليل أو مَنْهجيّة واضِحة، وهذه مناقشته.

 

قَسَّمَ المَقَالُ -المَذْكور- دُعاةَ #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ إلى ثلاثة أَرَاعِيل، فالرَّعِيل الأوَّل وَفْقًا للمَقَال يتمثَّل في المُفكِّرين الإِسلامِيِّين الأوَائِل ك #سَيْد_قُطْب و #مُحمَّد_باقِر_الصَّدْر و #عِيَسى_عَبْده وآخَرون، وذَكَر المَقَال أنَّهم رَأَوْا أنَّ الحلَّ الوَحِيد في إسْقَاط الدُّوَل المَدَنيّة وإقامَة أُخْرى إِسْلامِيّة، وأنَّ الاقِتصاد الإِسْلَاميّ لن يُوجد إلَّا في ظلّ دَوْلة إِسْلاميّة.

 

وهنا لا بُدَّ من التُّنْويه إلى أنَّ #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ قَضيّة اقتِصاديّة بَحْتة وليست سِياسيَّة، والهَدَف منه إقامَة نِظام اقتِصاديّ يُحقِّق الخَيْر للجَمِيع، فاشتِراط وُجُود نِظام حُكْمٍ إِسْلاميّ قَبْل تَطْبيق النِّظام الاقتِصادي الإِسْلَاميّ فيه مُغالَطة، لا سِيَّما أنَّ من خَصائِص الاقتِصاد الإِسْلَاميّ #الشُّموليّة، بمعنى أَنَّه قابِل للتَّطْبيق حتى في الغَرْب المَسِيحيّ فهو نِظامٌ عالَميّ وليس مَحْصورًا في المُسلِمين.

 

أمَّا الرَّعِيل الثَّاني وَفْقاً للمَقَال فَهُمْ العُلماء والفُقهاء في النصْف الثَّانِي من القَرْن العِشْرين والَّذِين -حسَبَ قوله- اسْتَقْطَبَتْهم مُؤسَّسات مَالِيّة مُحْدَثة بهَدِف التَّرْويج لمُؤسَّسات #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ وتَقْديم التَّأْطير الفِقْهيّ لها حتى تَتمايَز عن البُنوك التَّقْلِيدية، وكلّ هذا مقابِل أَمْوال مُجْزية انعكست على رَفاهِيّة حياتهم ورَغَد عَيْشهم.

 

وهذا الطَّرْح في تقديري مُجافٍ للحَقِيقة، فالدَّافِع الحقِيقيّ لنَشْأة #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ وظُهُور بُنُوكه لم يكُن رَغْبة #المؤُسَّسات_المالِيّة، بل كان حاجَةً اقتِصاديّة مُلِحّة لِشُعُوب العالَم الإِسْلاميّ، لأنَّ المُؤسَّسات المالِيّة التَّقلِيدِيَّة -والَّتي قَصَدَها المَقَال- قد تَجِد ربحًا أفضل وفَوائِد رَبَوِيَّة أعلَى في ظلِّ #النِّظام_الرَّأْسماليّ، وليس من صالِحها التوجُّه للنِّظام الإِسْلَاميّ الَّذِي يَمْنع الرِّبْح الفاحِش ويَسْعى ل #عَدالة_التَّوْزيع.

 

كما أنَّ الظنّ بأنَّ فُقَهاء تلك الفَتْرة اجتهدوا بهَدَف الكَسْب المادِّيّ وأنَّهم عاشوا حياةً رَغِيدة بفِعْل أَمْوال #المُؤسَّسات_الماليّة الَّتِي دَفَعت لهم مُقابِل اجتهادِهم يُشكِّل طَرْحا مَغْلوطًا، فالجَزْم بأَنَّ فُقَهاء تِلْك الفَتْرة اجْتَهدوا بهَدَف الكَسْب المادِيّ فحَسْب يُشكِّل تجنِّيًا واضِحًا لهم، عِوضًا عن أنّه اتِّهَامٌ بلا دَلِيل.

 

إنَّ تَلقِّي الفُقَهاء والخُبَراء الاقتِصاديِّين الإِسْلامِيِّين -وغَيْر الإِسْلامِيِّين منهم- عوائِدَ مَاليّةً على شَكْل رَواتِب وأُجُور مُقابِل عَمَلِهم أو اجْتهادِهم لا يَجِب أن يكونَ مَنْقَصَةً لَهُم، أو مَدْعاةً للهُجُومِ عليهم، فمِن حَقّ أيّ مُتفرِّغ وعالِم فِقْهيّ أو اقتِصاديّ أن يتلقَّى أَجْرًا لقاء عَمَله، فعَادَةُ الأُمَم أَنْ تَتسابَق في تَكرِيم عُلَمائها ورِعايَتِهم نَاهِيك عن دَعْم بُحُوثهم.

 

أمَّا الرَّعِيل الثَّالِث -وَفْقًا للكاتِب- فَهُم تلامِذة وطُلَّاب الرَّعِيل الثَّاني، وغالِبيِّتهم من خِريجيّ كُلِّيّات ومعاهِد الشَّريعَة، والَّذِين اجْتَهدوا قناعةً بجَدْوى النِّظام الاقتِصاديّ الإِسْلَاميّ لَكِنَّهم لم يَنْعموا بأيّ مكاسِبَ مالِيَّة عَكْس الرَّعِيل الثَّانِي، وذَكَر المَقال أنَّ فُقَهاء هذا الرَّعِيل قد خَدَموا -من حيث لا يَعلَمون- #النِّظام_الرَّأْسمالِيّ.

 

وهذا الطَّرْح هو الآخَر يَنْطوِي على جُمْلة مُغالَطات، ف #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ لا يَهْدف لمُحارَبة أيّ طَرَف، بل هَدَفُه إقامَة نِظَام اقتِصاديّ يُراعِي #القَواعِد_الشَّرْعيّة ويُحقِّق #العَدالة_الاجتِماعيّة للجَمِيع، ف #الاشتِراكيّة و #الرَّأسمالِيّة دَأَبَا على التَّنَازُع، ولا يَسْعى الاقتِصاد الإِسْلَاميّ لدخُول حَلَبة هذا النِّزَاع.

 

هذا فيما يَخُصّ الجانِب التَّفْصيليّ للمَقَال، أمَّا فيما يَخُصّ الإطار العامّ له، فلا يُمكِن العُثُور على أيّ مَنْهجيّة عِلْميّة في الطَّرْح الذي قدَّمَه المَقَال، فالبَحْث العِلْميّ يَقُوم على الأدِلَّة والبَراهِين والحُجَج العَقْليّة، فكلّ الطَّرْح المَذْكور في المَقَال يَفتقِر للأدِلَّة والبَراهِين، فمِن السُّهُولة اتِّهام أيّ فَكْر اقتِصاديّ وغير اقتِصاديّ، ولكن لا قِيمَة لهذا الاتِّهام في غِيَاب الأدِلَّة والبَراهِين.

 

 

مِن خِلَال التَّدْقيق في مُحْتوى المَقَال التَّفْصيليّ وفي سِيَاقه العامّ يُمكِن بوُضوح ملاحَظة بُعْده عن حقِيقَة وكُنْه وجَوْهَر #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ، فلا يَجُوز اتِّهام #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ مُمثَّلا ببُنُوكه بخِدْمة الاقتِصاد الرَّأْسماليّ، فهذه التُّهْمة مُجافَاةٌ تامَّة للحقيقة، وهنا لا بُدّ من إِيراد بَعْض المَفَاهِيم السَّرِيعة لتَوْضِيح حقِيقة هذه النُّقْطة.

 

يُشكِّل الاقتِصاد الإِسْلاميّ في الوَقْت الحَاليّ ظاهِرة اقتِصاديَّة مَوْجودة وذَاتَ أَثَرٍ حقِيقيّ، ولولا نَجَاحها لما تَمكَّنَت من الاستِمرار، فعَدَد المُؤسَّسات المالِيَّة الإِسْلاميَّة في العَالَم يبلغ 1143 مُؤسَّسة، ويَبْلغ رَأْس مَالها 2,43 تريليون دولار وعَدَد عُمَلائها 100 مليون عَمِيل.

 

تُبِيِّن الأَرْقام السَّابِقة الانتِشار الوَاسِع والمُتسارِع للاقتِصاد الإِسْلاميّ على مُستَوى العالَم، مع الإشارة  إلى أنَّ عُمْر الفِكْر الاقتِصادي الإِسْلاميّ الحَدِيث لا يَتَعدَّى 60 عامًا، فأوَّل مُؤسَّسة مالِيَّة إِسْلاميَّة ظَهَرت عام 1975م، بينما #الاقتِصاد_الرَّأْسماليّ تَعُود جُذُور مُؤسَّساته المالِيَّة لخَمْسة قُرُون خَلَتْ.

 

يُشكِّل #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ مُنافِسًا حقِيقيًّا ل #الاقتِصاد_الرَّأْسماليّ، فعلى الرَّغْم من حَدَاثة الأوَّل مُقابِل عَراقَة الثَّاني فإنَّ #البُنُوك الرَّأْسماليّة شَرَعت في استِخْدام العَديد من مَبادِئ الاقتِصاد الإِسْلاميّ كبَنْك #HSBC وبَنْك #BNP وبَنْك #UBS، وهذا ما يُثْبت نَجاعَة #الاقتِصاد_الإِسْلاميّ وقَابِليتّه للتَّطْبيق وللانتِشار.

 

#الاقتِصاد_الإِسْلاميّ ما زال في طَوْر التَّجْربة مُقارَنة ب #الاقتِصاد_الرَّأْسماليّ، فالعُقُود القادِمة من شَأْنها إِظْهار نَجَاحات جَدِيدة لهذا #الاقتِصاد لا سيَّما أنَّ عَدَد الجامِعات الَّتي تَتبنَّى مناهِج الاقتِصاد الإِسْلاميّ في ازْدِياد.

 

إنَّ الاعتِقَاد بأَنَّ #الاقتِصاد_الإِسْلَاميّ صَنِيعة فَقِيه بِعَيْنه أو نِتَاج فِكْر فَرْدٍ مَا أو رَغْبة من هذه المُؤسَّسة أو تِلْك يُشكِّل تَحْجيمًا وتَصْغيرًا لهذا الاقتِصاد، فهو وَلِيد حاجَة بَشَريّة مُلِحَّة وإنْ تأَخَّر ظُهُورها، لذلك فمِن واجِب العُلَماء والفُقَهاء والمُشرِّعِين ورِجَال الأَعْمال فَتْح البَاب وَاسِعا أَمَام أَحْكامه وتَطْبيقاته.

 

تَقُوم الرَّكِيزة الرَّئِيسة للاقْتِصاد الإِسْلاميّ على تَحْقيق العَدَالة الاجتِماعيّة في المُجتَمع، والَّتي تُعتبَر الغائِب الأَبْرز في النِّظام الرَّأْسماليّ، لذلك أَنْصَح العامِلين في التِّجارة بشَتَّى أَشْكالها الاطِّلَاع الدَّقِيق على معاملات الاقتِصاد الإِسْلاميّ، لأَنَّه الضامِنٌ الحَقِيقيّ لمَصَالِح الفَرْد الشَّخْصيّة، إضافَةً لضَمَانه مَصْلَحة المُجتَمع وكلّ ذلك في إِطَار الرِّزْق الحَلَال الخالِص.

 

يُفْهَم من المَقَال في إِطاره العامّ أنَّ الاقتِصاد الإِسْلاميّ بِدْعة مُحدَثة لا سِيَّما أنَّ ظُهُوره لم يَكُن إلَّا مُنْذ عُقُود قَلِيلة، وهذا الطَّرْح هو الآخَر مَغْلوط، فعَدَم وُجُود قَوانِين تَحْكُم وتُنظِّم الاقتِصاد الإِسْلاميّ لا يَجُوز أنْ يُفهَم على أنَّه لم يَكُن مَوْجودًا، فعِلْم الاقتِصاد بشَكْل عامّ يُعتبَر عِلْمًا حديثَ العَهْد، لكنَّ النَّشَاط الاقتِصاديّ مَوْجود وُجودَ الإنسان.

 

إنَّ حقائق التّاريخ الإِسْلاميّ تُثْبِت بما لا يَدَع مجالًا للشَّكّ أنَّ الاقتِصاد الإِسْلاميّ وُجِد مع ظُهُور الإِسْلام، فخِلال القُرُون الطَّوِيلة التي تَسيَّدت فيها الدَّوْلة الإِسْلاميّة العالَم كان لها نِظامها الاقتِصاديّ الخاصّ، سَواءٌ بنَظْرتها للعُمُلات أو لرَأْس المال والمُعامَلات، ولم تُعْطِ لرَأْس المَال أيّ أَفْضليّة على باقي عناصِر الإِنْتاج عَكْس ما فَعَل النِّظام الرَّأْسمالِيّ.

 

إنَّ النِّظام الاقتِصاديّ الغَرْبيّ اعتَمد في العَديد من أُسُسه ومُرْتكزاته على إِسْهامات عُلَماء المُسلِمين كابْن خَلْدون والمَقْريزيّ وغَيْرهم، وهذا مُوثَّق في البُحُوث والدِّراسات، فالادِّعاء بعَدَم وُجُود اقتِصاد إِسْلاميّ حقِيقيّ لا يُشكِّل إلا نُكْرانًا للحَقِيقة والَّتي اعتَرَف بها الغَرْب نَفْسه، فالغَرْب ذَاته الَّذي حاوَل مُحارَبة الاقتِصاد الإِسْلاميّ لم يَجْرؤ على نُكْران وُجُود الاقتِصاد الإِسْلاميّ.

 

لا يَنْبغي أن يُفْهَم طَرْحنا على أنَّنا ضِدّ الانتِقادَات الَّتي تُوجَّه للاقتِصاد الإِسْلاميّ، فعلى العَكْس تمامًا تُشكِّل الانتِقادَات مَطِيَّة هامَّة للتخلُّص من الثَّغْرات وتَرْميم النَّوَاقِص، ولكن شَرِيطة أنْ تَكُون قائِمة على بُرْهان ودَلِيل وأنْ تَتناوَل ثَغْرات حَقِيقيّة، فالمَقَال المَذْكور لم يُقدِّم أيّ انتِقادَات حَقِيقيّة، بل كان جُلَّ هَمِّه تناوُل الاقتِصاد الإِسْلاميّ كفِكْرة وتَناوُل مُفكِّريه ومُنظِّريه.

 

وخِتامًا لا بُدّ من الاعتِراف بوُجُود بَعْض الأَخْطاء والمُمَارَسات المَغْلُوطة ضِمْن التَّطْبِيقات المالِيَّة للمُؤَسَّسات المالِيَّة الإِسْلاميّة -ولا نُقِرّها-، وهذه الأَخْطاء مُبَرَّرة نَتِيجة حَدَاثة عَهْد التَّجْرِبة، لكن لا يَجُوز استِغْلال هذه الأَخْطاء تَشْكيكًا في نَوايا القَائِمين عليه، لا سِيَّما أنَّ هذه التجربة تَلْقَى مُعارَضةً قَويَّة من قِبَل كُبْريَات المُؤَسَّسات المالِيَّة الرَّأْسمالِيَّة.

 

 

شَارِك المَقَال