شَارِك المَقَال

يشهد العالم تصاعدًا واضحًا في إصدار عملات رقمية رسمية، وفي ظلّ التحوُّل الكبير نحو الاقتصاد الرقمي؛ فإن أكثر من 130 دولة بدأت بالفعل مراحل البحث والتجريب، أو حتى الإطلاق الجزئي لعملات رقمية، أبرزها: “الدولار الرقمي” في الولايات المتحدة، و”اليوان الرقمي” في الصين، و”اليورو الرقمي” في الاتحاد الأوروبي.

وقد حقَّقت الصين تقدُّمًا لافتًا في هذا المجال؛ إذ يستخدم أكثر من 260 مليون شخص اليوان الرقمي، وتمَّت عبره معاملات مالية تجاوزت قيمتها 280 مليار دولار، ما يؤكّد على مدى استعداد الشعوب لقبول هذه التغييرات، حين تكون مدعومة من الدولة.

 

دوافع إصدار العملات الرقمية الرسمية
إصدار العملات الرقمية الرسمية مِن قِبَل الحكومات لا يأتي من فراغ، بل ينبع من دوافع إستراتيجية واقتصادية عميقة، على رأسها التصدي لتنامي نفوذ العملات الرقمية غير الرسمية مثل البيتكوين والإيثيريوم. فمع الانتشار المتسارع لهذه العملات، أصبحت تُشكِّل تهديدًا حقيقيًّا لسيادة الدول على أنظمتها النقدية والمالية؛ إذ إن البيتكوين، على سبيل المثال، لا يخضع لأيّ سلطة مركزية، ويتيح للأفراد والشركات إجراء المعاملات بشكلٍ مستقلّ عن الأنظمة المصرفية التقليدية، مما يُقلِّل من قدرة الحكومات على مراقبة تدفُّقات الأموال، وضبط السياسات النقدية، وفرض الضرائب.

في ظل هذا التحدّي، بدأت الدول تُدرك أن بقاءها خارج عالَم العملات الرقمية يُعرِّضها لخطر فقدان السيطرة على أدواتها الاقتصادية. فمع الوقت، قد تتوسَّع استخدامات العملات اللامركزية إلى حدّ يصبح فيه التعامل بالعملات الرسمية محدودًا، خاصةً في بيئات الأعمال الرقمية أو في التجارة العابرة للحدود. وهذا يعني عمليًّا أن الحكومات قد تفقد قدرتها على التأثير في الدورة الاقتصادية، وضبط معدلات التضخم، أو حتى إدارة السياسات المالية بشكلٍ فعَّال.

 

تحوُّل عالَمي نحو الاقتصاد الرقمي
من الأسباب أيضًا أن الاقتصاد العالَمي بأكمله يتجه نحو الرقمنة. وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الرقمي سيصل حجمه إلى 16,5 تريليون دولار بحلول عام 2028م، وهو ما يعادل حوالي 17% من الاقتصاد العالمي. في ظل هذا التحوُّل، تصبح الحاجة للعملات الرقمية الرسمية حتمية؛ إذ لن يكون من المُجْدِي الاعتماد على النقد الورقي في نظام اقتصادي يعمل بشكل رقمي كامل؛ من الدفع إلى الاستثمار والتجارة الإلكترونية. ولذا فالدول التي تتأخر عن اللحاق بهذا الركب قد تخسر كثيرًا من قدرتها التنافسية على الساحة العالمية.

إضافةً إلى ما سبق، فإن إصدار العملات الرقمية الرسمية يُمثّل خطوة لتقليل التكاليف المرتبطة بطباعة وتوزيع العملة الورقية؛ إذ تكلّف طباعة كل ورقة نقدية نحو 20 سنتًا، ناهيك عن تكاليف التخزين والنقل والحماية. كما أن العملات الورقية مُعرَّضة للتلف والضياع، بينما العملات الرقمية آمِنة، وسهلة الحفظ، ويكاد يكون من المستحيل تزويرها.

العملات المشفّرة ما تزال أكثر جاذبية للمضاربين
ورغم كل هذه الإيجابيات؛ إلا أن العملات الرقمية الرسمية ما زالت تواجه تحديًا في منافسة البيتكوين وغيره من العملات المشفرة، خصوصًا في نظر المستثمرين والمضاربين. السبب الرئيسي هو أن العملات الرسمية تحافظ على قيمة ثابتة نسبيًّا، ولا توفر فرصًا للربح السريع. أما العملات المشفّرة، فتتميز بتقلُّبات حادة في قيمتها، ما يجذب الكثير من المستثمرين الذين يسعون لتحقيق أرباح من فرق السعر. ولذلك، تبقى البيتكوين والعملات المشابهة هي الخيار المُفضَّل للربح والمضاربة، على الرغم من كونها أكثر خطورة.

 

هل ستكسب العملات الرسمية معركة الثقة؟
إن نجاح العملات الرقمية الرسمية لا يتوقف فقط على إصدارها، بل على مدى بناء الثقة بها، ومدى قدرة الحكومات على إقناع الأفراد والشركات باستخدامها. فالتحدي الحقيقي أمام هذه العملات ليس تقنيًّا فحسب، بل اجتماعي وثقافي أيضًا، يتعلق بمخاوف الأفراد من الرقابة، ورغبتهم في تحقيق أرباح أكبر. ولكن يبدو أن العالَم يتَّجه نحو المزيد من الاعتماد على النقود الرقمية، الخاضعة للإشراف الحكومي وغير الخاضعة.

شَارِك المَقَال



المنشورات ذات الصلة