شهدت دول العالم في الآونة الأخيرة طفرات كبيرة وتغيُّرات ضخمة على كافَّة الأصعدة؛ العلمية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية، انعكست هذه المستجدات على مفهوم الثقافة في العصر الحديث، ودورها في التنمية، وتحوُّلها من فكرة الإنتاج إلى توظيفها في دعم الاقتصاد القومي. ولذلك اهتمت المجتمعات المعاصرة باقتصاد المعرفة وصناعة الإبداع، وأصبحت السياسات الاقتصادية في العالم داعمة للإبداع والفن والثقافة بصورة أوسع؛ بهدف زيادة الإنتاج الثقافي والإبداعي، مما يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي العام للدول.
إن جوهر الصناعات الثقافية والإبداعية يتمثل في الإبداع البشري الذي يتميز بالقدرة على إنتاج أفكار جديدة تتَّصف بالتفرد والأصالة. من هنا أصبحت الصناعات الثقافية الإبداعية من محفزات التنوع الاقتصادي نظراً لما تشمله من فنون التراث والحِرَف اليدوية وفنون التصميم المختلفة والفنون التشكيلية وصناعة السينما والكتاب والنشر والألعاب الإلكترونية والبرمجيات، وغيرها. وقد باتت الصناعات الثقافية الأسرع نمواً في العالم؛ وقُدِّرت إيراداتها بنحو 2.250 تريليون دولار سنوياً على مستوى العالم، وهو ما أسهم في توفير ما يقرب من 30 مليون وظيفة عالمياً، مع توقعات بوصول مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 10%.
تعتمد الصناعات الثقافية والإبداعية على عدة عناصر، من أهمها: الفكر والإبداع، والابتكار والإنتاج، والتوزيع، والنشر والترويج للمنتجات والخدمات ذات الصلة بالتعبير الإبداعي، وحفظ الإرث الثقافي، والتي يؤثر نموّها وانتشارها إيجاباً على الأجندة الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
في عصر التقنية والعولمة، تُعدّ الصناعات الثقافية هي مستقبل الاستثمار؛ حيث إنَّ الفنون والثقافات والسياحة الثقافية، بما تحتوي عليه من متاحف، وحِرَف شعبية، ومهرجانات فنية، ومسارح ودور نشر، ومعارض ثقافية… لم تعد مجرد هوايات أو كرنفالات احتفالية فقط، بل أصبحت صناعة تتطلّب رأس المال والتخطيط والتسويق، وغدت منتجات تسهم في دعم الدخل القومي، وآليات مهمَّة للتعريف بالدولة ومكانتها الحضارية.
إن التقدم التقني وانفتاح الأسواق دفع صناعة الثقافة إلى سلّم أولويات الدخل القومي في عدد من الدول، ومن بينها الهند التي حقّقت دخلاً مهماً في صناعة السينما بلغ نحو مليار دولار سنوياً.
أما هوليوود فإن دخلها يصل إلى أرقام فلكية، ووصلت الإيرادات الأمريكية في قطاع الكتب والأفلام والموسيقى والألعاب إلى 126 مليار دولار أمريكي في عام 2021م، بمعدل نمو بلغ 3.73٪، مما يؤدي إلى حجم سوق متوقّع قدره 146452 مليون دولار أمريكي بحلول عام 2025م. كما حققت إجمالي الإيرادات لعروض برودواي في المسرح والموسيقى في نيويورك في موسم 2019م، 1.43 مليار دولار أمريكي.
وتحقق إسبانيا مبالغ ضخمة من السياحة الثقافية؛ حيث تستثمر في صناعة النشر والمتاحف التشكيلية والتاريخية والقرى الثقافية التي تستقطب الفنانين والزوار ممن يشدون الرحال من كافة أنحاء العالم.
أما صناعة الثقافة في الصين فقد ولّدت عوائد بلغت 296 مليار دولار في عام 2013م. وهو ما يعادل 3.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لثاني أكثر اقتصاد في العالم.
ويزيد الناتج الإجمالي الثقافي في فرنسا عن 44 مليار يورو سنوياً، علماً بأن الدور الاقتصادي للثقافة لا يقف عند ما تدره من مداخيل مباشرة، بل يتجاوز ذلك بكثير ليمنح للبلاد صورة مشرقة ويعطي دفعة هي الأقوى للمجال السياحي. ففرنسا ليست معروفة فقط ببرج إيفل ولا بمتاحفها التي هي جزء أساسي في الفعل الثقافي، وإنما معروفة أيضاً بمسارحها، وعروضها الفنية ومهرجاناتها، وفنونها البصرية وهندستها المعمارية ومسارحها النشطة وأفلامها السينمائية وإبداعات كتابها وغير ذلك من المنتوجات الثقافية. وتثبت جل الدراسات التي تُعَدُّ حول أسباب استقطاب فرنسا لملايين السياح سنوياً، أن للبعد الثقافي وللصورة التي تقدّمها عن البلاد، دوراً أساسياً في اختيار هذا البلد كوجهة سياحية.
وبلغت مبيعات متاجر التجزئة للكتب والصحف والمجلات الدورية الأخرى في كندا نحو 3.42 مليار دولار كندي في عام 2019م.
نظراً لعوائدها المالية الضخمة ودورها في رفع مكانة الأمم والمجتمعات؛ أصبحت صناعة الثقافة والفنون تحظى باهتمام كبير في الآونة الأخيرة بين صُنّاع القرار في كثير من الدول العربية التي تسعى نحو آفاق مستقبلية تتنامى فيها الأبعاد التنموية لتلك الصناعة الثقافية والإبداعية، وتزداد يوماً بعد يوم مكانتها الرفيعة مع تزايد دور الثقافة الإبداعية كقوة دافعة في تعزيز ديناميكية تفاعلها مع كافة الجوانب الاقتصادية.
وإن مواصلة تلك الجهود الوطنية نحو استثمار قوة الثقافة في تنوير العقول ومد جسور الحوار بين الثقافات، وتنمية الاقتصاد الإبداعي سوف تثمر في المستقبل القريب في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وفق رؤية أممية في ٢٠٣٠.
لقد آن الأوان، لبذل الدول العربية لمزيد من الجهود نحو مراجعة وتحديث عناصر ومكونات المنظومة الثقافية العربية، والالتزام بتطبيقها بحيث تعيد للثقافة حيويتها؛ فتصبح قوة دافعة وقيمة مضافة اقتصادية. وهذا ليس بالمشروع الهين الذي يمكن الاستخفاف به، أو الاستغناء عنه، فهو يحتاج إلى كثير من اليقظة والصبر والإصرار وتضافر الجهود لرفع شأن الدول العربية ثقافياً واغتنام تاريخها ومتاحفها وكنوزها الثقافية في جعل الثقافة رافداً لدعم الاقتصاد التنموي في الدول العربية .
ولا شك أن المنظومة الثقافية بمفهومها الواسع وما تمتلكه الدول العربية من إمكانيات ضخمة في هذا المجال يمكن النظر إليها على أنها صناعة مهمة قادرة على خلق قيمة مضافة ذاتية، وتحفيز كافة قطاعات النشاط الثقافيّ والإبداعيّ المتنوعة على تعظيم قيمتها الاقتصادية المضافة.