بصفة عامة أقرت الشريعة الإسلامية المعاملات المالية بين الأفراد. ونظمتها بأحكام وقواعد محددة حفاظاً على الحقوق وتجنباً للآثام. ومن المتفق عليه شرعاً حرية الفرد في البيع والشراء والتملك وتصرفه فيما يملك. وضرورة احترام الغير هذه الحرية وعدم التعدي عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والسؤال هنا حول حديث “لا تَبِعْ ما ليس عندك”. لماذا نهى الرسول ﷺ عن بيع مِلك الغير؟ وما هو البديل الشرعي؟
في الحقيقة لقد قنّنت الشريعة حرية البيع والشراء ببعض الأحكام الملزمة. ومنها عدم بيع الفرد ما لا يملكه. لأن من القواعد الفقهية المتفق عليها أن فاقد الشيء لا يعطيه. وحتى يقع البيع ويكون صحيحاً يجب أن يكون البائع مالكاً للشيء المبيع. وإلا وقع البائع في مشكلة بيع ملك الغير.
هذه القاعدة الشرعية تستند لقول الرسول ﷺ لحكيم بن حزام حينما سأله يا رسول الله! الرجل يأتيني يريد السلعة وليست عندي فأبيعها عليه ثم أذهب فأشتريها. فقال ﷺ: “لا تَبِعْ ما ليس عندك”. فإذا ما أراد الفرد بيع سلعة ما فيجب أن يشتريها ويدفع ثمنها. فإذا ما تمت الحيازة وصارت عنده يمكنه بيعها بعد ذلك.
وفي الوقت نفسه هذا ينطبق على الشراء. فلا يجوز للفرد شراء شيء ليس مملوكاً ملكاً شرعياً لأحد مثل السلع والخدمات الوهمية. وذلك لعدم تحقق الشرعية في ملكيته.
بالتالي القاعدة تضم حالتين إحداهما أن يبيع الفرد السلعة قبل أن يملكها. أما الحالة الثانية فهي أن يبيع الشيء بعد أن يشتريه لكن قبل أن يتملكه بالقبض. فعقد البيع يقع على الملك. وما لم يُملك بعدُ أو اشتراه ولكن لم يتم مِلكه له بعدُ لا يجوز له بيعه. من هنا فإذا لم يقبض الشيء المبيع لا يقع عليه عقد البيع لأنه لم يوجد محل يقع عليه العقد شرعاً.
من ناحية أخرى فإن تعبير الرسول ﷺ “ما ليس عندك” تعبير عام يدخل تحته ما ليس في مِلْك الفرد. أو ما ليس في قدرته على تسليمه. أو ما لم يتم ملكه له بالقبض. والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة. منها “مَن ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه” رواه البخاري. لأنه أكثر ضماناً للحقوق.
نتيجةً لذلك يُشترط في صحة عقد البيع أن تكون السلعة قد ملَكها البائع بالقبض. أما إن كان لم يملكها أو ملكها ولم تتم ملكيته لها فلا يجوز بيعه لها. وهذا يشمل ما ملكه الفرد ولم يقبضه مما يُشترط فيه لتمام البيع (القبض) وهو المكيل والموزون والمعدود.
أما فيما يخص بيع ما لا يُشترط فيه القبض لتمام ملكه وهو غير المكيل والموزون والمعدود. مثل الماشية والأراضي والعقارات فيجوز بيعها قبل قبضها. لأن البيع يتم بالعقد الذي وقع بالقبول بين طرفيه سواء تم القبض أم لا. فمسألة عدم البيع هنا ليست متعلقة بالقبض وإنما بإتمام البيع وبتمام هذه الملكية له.
غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية رجّح أن هدف القاعدة هو دفع الشك في القدرة على تملك السلعة. فلا يجب بيع ما لا يتيقن الفرد من قدرته على تسليمه للمشتري. فإذا باع سلعة موصوفة لا يملكها أو أنه سيشتريها لاحقاً. فقد لا تكون موجودة أو متوفرة ولكن بسعر أعلى من الذي باع به فيتضرر إما البائع أو المشتري.
ومع ذلك رأى ابن تيمية أن الصورة المنهي عنها هي أن يبيع الفرد شيئاً معيناً لا يملكه. ويلحق بها بيع شيء موصوف لا يستطيع تسليمه. كأن يكون غير موجود في السوق فيبيعه على أمل أنه سيسعى لتوفيره وهذا لا يجوز. أما بيع شيء موصوف دون تحديد سلعة بعينها فهو جائز إذا كان موجوداً في السوق ويسهل الحصول عليه وقتما شاء.
من هنا إذا كانت السلعة ليست في ملكية الفرد أو في متناوله أو ليست تحت تصرفه لا واقعاً ولا حكماً فلا يجوز له بيعها لآخر. والحل هنا أن يطلب مهلة من المشتري يتأكد خلالها أولاً من توافر السلعة المرادة ومن ثمنها المتداول. فإن رغب المشتري بعد ذلك في الشراء منه فله ذلك.
أما إذا كانت السلعة المرغوبة ليست في متناول الفرد حقيقةً. لكنه متأكد تمام التأكد من قدرته على حيازتها ولو من متجر آخر. وكان متيقناً من ثمنها في السوق. فالسلعة في هذه الحالة تعتبر عند التاجر حكماً ولا يدخل بيعها في النهي النبوي.
في الحقيقة قد يواجه البعض هذه الحالة في وقتنا الراهن بأن يبيع ما ليس عنده. فكيف يمكن تجنب الأمر؟ الثابت شرعاً أن البديل لبيع الشيء غير المملوك هو المضاربة. أي أن يقتطع صاحب المال جزءاً من ماله للتجارة وبعضاً من ربحه لمن يقوم على شؤون تجارته.
من جهة أخرى المضاربة هي عقد بين طرفين. يقوم أحدهما بالدفع نقداً إلى آخر يتجر في المال بمجهوده على أن يكون الربح بينهما بنسبة متفق عليها في العقد الموقع بينهما. وهي معاملة جائزة بإجماع الفقهاء وكانت موجودة قبل الإسلام. حيث ضارب النبي ﷺ مع السيدة خديجة في مالها. ولما جاء الإسلام أقر المُضارَبة.
في النهاية يمكن للتجار استخدام صِيَغ المضاربة بدلاً من بيع ما لا يملكون واقعاً أو حكماً وهو أمرٌ محرمٌ شرعاً. خاصةً في منتجات مثل الخضروات والحبوب والسلع التي تعد من المواد الموزونة المكيلة. وبالأخص التي يُشترط قبل بيعها أن تكون مملوكة للبائع وأن يتم تملكها بالقبض أولاً وليس بمجرد التعاقد.