تعتبر درعا مهد الثورة السورية ونقطة انطلاقها. وعلى الرغم من النكبات العديدة التي شهدتها هذه الثورة. إلا أن درعا بقيت محافظة على مبادئ الثورة على الرغم من الضغوط الهائلة التي مورست عليها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. والسؤال هنا: لماذا تم تسليم درعا؟ وماموقف الأردن من هذه العملية؟
شهدت محافظة درعا عمليات عسكرية عديدة ومفاوضات سياسية عدة. وعلى الرغم من دخول قوات النظام غالبية مناطق المحافظة بعد تسوية سياسية عام 2018م بين النظام والفصائل المقاتلة في المحافظة بوساطة روسية. إلا أن بعض الأحياء حافظت على شبه استقلال ذاتي. ومنعت قوات النظام من دخول هذه الأحياء.
شهدت درعا بعد تسوية عام 2018م عدة مفاوضات عسكرية إضافة لمحاولات عدة لدخولها عسكرياً من قبل النظام. وجميع هذه المحاولات انتهت بمفاوضات سياسية برعاية روسية. وفي كل هذه المفاوضات نجحت لجان المفاوضات التابعة للمعارضة في الحفاظ على سلاح الفصائل على الأقل الخفيف والمتوسط منه.
تعتبر درعا حالة خاصة في المدن السورية. فهي من الناحية الاقتصادية ذات أهمية كبيرة. وفيما يتعلق بالجانب الاستراتيجي تمثل أهمية كبرى. فهي تقع على حدود فلسطين المحتلة. ولها أهمية لكل من إيران وإسرائيل اللتين تحاولان اتخاذها كساحة خارجية لتصفية حساباتهم. وبالتأكيد فالخاسر الأكبر من هذه العملية هي المحافظة وسكانها.
كما أن لدرعا أهمية بالنسبة للأردن. فالأردن يعتمد في اقتصاده الفقير نسبياً على تجارة الترانزيت بين تركيا وسوريا في الشمال وبين دول الخليج العربية في الجنوب. إضافة لوجود روابط اجتماعية وديمغرافية بين عشائر درعا وعشائر شمال الأردن. وهو ما يبرر بشكل أو بآخر سماح الأردن لنشاط بعض الجهات السياسية في المعارضة السورية في بداية الثورة السورية.
كما تشكل درعا منطقة اهتمام لبعض الدول الكبرى لاسيما روسيا. فروسيا دعمت الفيلق الخامس في درعا والذي ضم أعداداً كبيرة من المقاتلين السابقين في صفوف المعارضة. وكل هذا بهدف ضمان استقرار نسبي للمحافظة. ومحاولة منها لقطع الطريق أمام إيران ومنعها من التوغل في المحافظة.
في الحقيقة تختلف التسوية الأخيرة عن سابقاتها في كونها تشترط تسليم المعارضة كل أشكال السلاح حتى الخفيف والفردي. وتشمل أيضاً تهجير من يرفض التسوية إلى الشمال السوري. فالهدف النهائي من هذه التسوية بسط سيطرة النظام بالكامل على محافظة درعا وإخراجها من دائرة الثورة السورية.
هدّد النظام وحلفاؤه عدة مرات بشن عملية عسكرية واسعة على درعا في حال فشل المفاوضات. وهذا التهديد لم يواجه بأي اعتراض إقليمي أو دولي. بل ويمكن القول بأن هناك مؤشرات بالموافقة على هذا التهديد. والسؤال الأهم هنا: ما الذي دفع القوى الإقليمية لا سيما الأردن المجاور لدرعا للسكوت عن هذا التهديد أو حتى الموافقة عليه؟
في الواقع برزت مؤخراً عدة مستجدات إقليمية تشي بأن هناك مصالح لعدة أطراف في إنهاء ملف درعا لصالح النظام. المؤشر الأول هو المعلومات التي رشحت عن قمة بغداد الأخيرة. والتي قال عقبها رئيس الوزراء العراقي بأن تركيا وفرنسا لا تعارضان المشاورات مع حكومة النظام السوري على أرض العراق.
تقول التسريبات بأن الأسابيع القليلة القادمة قد تشهد لقاءات أمنية بين ممثلين عن النظام وممثلين عن الحكومة التركية والفرنسية. كلّ على حدة. وإن أكدت التسريبات أن الحكومة التركية والفرنسية لن تتعامل مع حكومة النظام على مبدأ أنها حكومة شرعية. بل على كونها حكومة أمر واقع ولا بد من التنسيق معها لضمان استقرار الإقليم.
المؤشر الثاني يتمثل في مشروع نقل الكهرباء والغاز المصريين عبر الأردن وسوريا إلى لبنان برعاية أمريكية. وبالتأكيد فإن درعا تشكل أحد الممرات الإجبارية لهذا المشروع. وعلى ما يبدو فإن معارضة درعا هي من ستدفع ثمن هذا المشروع الأمريكي.
يرى الأردن مناخاً إقليمياً ودولياً يميل للتعامل مع حكومة النظام السوري على أنها حكومة أمر واقع ولا يمكن تجاهلها إلى الأبد. ولهذا يسعى لعدم معارضة هذا المناخ العام. وهذا ما يشكل المبرر للتغاضي الرسمي الأردني عما يحدث على حدوده الشمالية.
من المتوقع أن تسبب التسوية الحالية في درعا نشاطاً ملحوظاً وانتشاراً كثيفاً للميليشيات الإيرانية على الحدود مع الأردن ومع الكيان الإسرائيلي. وهذا الأمر لا يرضي الطرفين. ولكن على ما يبدو فإنهما يأملان في تمكن روسيا من تحجيم الوجود الإيراني ودفعه بعيداً عن الحدود. لا سيما أن هناك تفاهمات سرية روسية إسرائيلية بهذا الخصوص.
يرى الأردن أن تسوية درعا الحالية قد تحقق له منافع من خلال مدّه بالغاز المصري لتوليد الكهرباء ونقلها إلى لبنان عبر سوريا. إضافة لأمله في إعادة الحياة لمعبر نصيب الحدودي. مما يحقق له عوائد مالية من تجارة الترانزيت والتي توقفت بعد عام 2011م.
قد يكون مشروع نقل الغاز والكهرباء المصريين إلى لبنان عبر الأردن وسوريا دونه عقبات عدة. أبرزها دمار البنية التحتية في سوريا وخاصةً اللازمة لإنجاز هذا المشروع. وفي هذا الشأن تقول الولايات الأمريكية أنها تبحث مع البنك الدولي إمكانية تمويل هذا المشروع.
في حال جدية الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الطرح فهو مؤشر خطير. يدل على أن المجتمع الدولي والإقليمي يميلون للتعامل مع حكومة النظام بالفعل على أنها الحاكم الفعلي لسوريا. وبالتالي إطلاق يدها للتخلص مما تبّقى من فصائل المعارضة السورية. وهنا تبرز قضية ضعف مؤسسات المعارضة في تسويق نفسها وقضيتها لدى الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي.
لفهم حقيقة المشروع الأمريكي لتزويد لبنان بالغاز والكهرباء لا يجب النظر لهذا المشروع من وجهة نظر قائمة على مبادئ الجدوى الاقتصادية. فبالتأكيد لا تمثل البيئة الاستثمارية السورية واللبنانية جاذباً للاستثمارات لا سيما للجانب الأمريكي. فالولايات المتحدة ليست بالسذاجة للاستثمار بمشروع عملاق في بيئة صراعات. إضافة لكون الحكومة اللبنانية وحكومة النظام غير قادرين مالياً على دفع تكاليف الغاز والكهرباء.
تشكل أزمة لبنان الاقتصادية عامل ضغط هائل على حزب الله. لا سيما أن العديد من التيارات السياسية في البلاد يحمّلونه مسؤولية الوضع الاقتصادي. ولهذا يسعى الحزب لطلب المعونة من حليفه الإيراني الذي وعده بتزويد لبنان بالمحروقات اللازمة لتشغيل محطات التوليد ولتغطية حاجة البلاد من الوقود.
تسعى الولايات المتحدة لعرقلة جهود إيران في دعم لبنان بالمحروقات. وتسعى لاستغلال الظروف الداخلية للبنان لزيادة الضغط على حزب الله. ولذلك تقترح تزويد لبنان بالغاز والكهرباء لإحراج الحزب وزيادة الضغط الشعبي عليه. بهدف استثمار هذا الضغط لإضعافه سياسياً واستثمار الضعف السياسي في الجانب العسكري لاحقاً.
لذلك فمشروع الغاز والكهرباء الأمريكي بالتأكيد لا يهدف لتحقيق الربح المالي. فهو مشروع اقتصادي ولكن بأهداف سياسية متوسطة الأجل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حكومة النظام ستستفيد بشكل أو بآخر من هذا المشروع اضطراراً. وإلا فكيف يمكن للولايات المتحدة معاقبة النظام بقانون قيصر ولاحقاً دعمه بمشروع الغاز والكهرباء؟!
مما لا شك به أن الولايات المتحدة تدرك تبعات هذا المشروع بدقة. وهذا ما يشي بأن المنافع التي سيحصل عليها النظام السوري مقبولة من قبل الطرف الأمريكي. وهذا الأمر يمكن تفسيره بوجود مؤشرات جديدة على تسوية إقليمية كبرى. ولا يستبعد أن تشمل التسوية تقليم أظافر إيران وحزب الله في سوريا.
زيارة الملك الأردني عبدالله الثاني لواشنطن وموسكو قبل عدة أسابيع. بالإضافة إلى تصريحاته المؤيدة لدور روسيا في سوريا. تُشكّلان تأكيداً للموافقة الأردنية على تسوية درعا. وهو ما يعزز التكهنات بوجود تسوية إقليمية شاملة. وعلى ما يبدو أن معارضة درعا هي الضحية الأبرز لهذه التسوية.
في الحقيقة تم إنجاز عدة نقاط في تسوية درعا. وتم عرقلة نقاط أخرى. فالمعارضة في درعا ترفض تسليم السلاح الفردي وتعترض على التهجير. وهنا يؤكد النظام بأن الحل العسكري هو البديل. ويلاحظ هنا عدم صدور أي اعتراض إقليمي على هذا التهديد بالعمل العسكري.
بصفة عامة تشي كل المعطيات الإقليمية والدولية بموافقة ضمنية على ما يجري في درعا. وهذا الأمر يمكن البناء عليه والقول بأن أهداف النظام في المحافظة ستتم بطريقة سياسية أو عسكرية. فالقضية قضية وقت ليس إلا.
من غير المستبعد أن يتم التضحية بالمعارضة السورية لإنجاز تسوية إقليمية شاملة. وهنا تظهر المسؤولية التاريخية لمؤسسات المعارضة في العمل على إنقاذ الثورة السورية. من خلال التواصل مع الحكومات الإقليمية والدولية وتقديم مشاريع وبرامج فعلية قابلة للتطبيق تقدم حلولًا للقضية السورية تحفظ حقوق المعارضة والشعب السوري.