بعد دخول الهدنة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي حيز التنفيذ لا بد من تحديد الخسائر الاقتصادية المرتبطة بهذه الحرب. وتظهر أهمية تحديد هذه الخسائر انطلاقاً من أهمية الاقتصاد في تحديد هوية المنتصر. كما أن الاقتصاد من شأنه تعزيز أي نصر عسكري أو إفراغه من معناه. لذلك لا بد من قياس الخسائر لكلا الطرفين.
تزداد أهمية التكلفة الاقتصادية للحرب في عالمنا الحالي. فطبيعة النصر في الحروب شهدت تغيراً واضحاً في العقود الأخيرة. فلم تعد نتائج الحروب تقاس بمقياس عسكري فقط. ولكن بات للتكلفة الاقتصادية كلمتها أيضاً فقد ينتهي صراع ما بنصر عسكري. إلا أن التكلفة الاقتصادية المرتفعة قد تفرّغ هذا النصر من معناه وقد تحوّله لهزيمة.
تظهر أهمية الاقتصاد أيضاً من خلال سعي بعض الدول لفرض أجنداتها على دول أخرى من بوابة الاقتصاد. كالضغط والحصار الاقتصادي وحروب العملات وغيرها من الأساليب ذات البعد الاقتصادي. ومن هذا الطرح كله يظهر الدور الفاعل للاقتصاد في حسم أي معركة أو على الأقل في تعزيز النصر العسكري أو تقليل فاعليته.
مما لا شك به أن المقاومة الفلسطينية لا ترقى في تسليحها إلى مستوى الترسانة العسكرية الإسرائيلية. فالصواريخ الفلسطينية صواريخ بسيطة نسبياً مقابل التفوق التكنولوجي الهائل للسلاح الإسرائيلي المعتمد على التوجيه الذاتي والقوة التدميرية والتوجيه الليزري. ناهيك عن خدمات التوجيه بالأقمار الصناعية.
في الحقيقة تدرك المقاومة الفلسطينية جيداً عدم قدرتها على مقارعة الترسانة العسكرية الإسرائيلية. إلا أنه وبشكل مقصود أو غير مقصود ساهم الأثر الاقتصادي لصواريخ المقاومة في تعديل الهوة الحادة في مستوى التسليح.
أدى الأثر الاقتصادي لصواريخ المقاومة الفلسطينية لتعديل كفة الصراع. وهذا ما يظهر من خلال قبول إسرائيل بالهدنة. فلو كان لإسرائيل الكلمة العليا في هذا الصراع لما قبلت بأي هدنة. ولأصرَّت على استمرار الحرب لحين القضاء على المقاومة بشكل تام. فالقبول بالهدنة دليل على أن صواريخ المقاومة سببت ضرراً لإسرائيل لا سيما على المستوى الاقتصادي.
بصفة عامة قد يكون من الصعوبة بمكان تحديد حقيقة الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية نتيجة الحرب في غزة. لا سيما أن الهدنة لم يمضِ عليها وقت طويل. فتحديد الخسائر يحتاج لوقت لا سيما فيما يتعلق بالخسائر غير المباشرة. ولكن يمكن الوقوف بشكل تقريبي على حقيقة هذه الخسائر اعتماداً على ما يرشح من تقارير رسمية واقتصادية إضافة للتقدير الاقتصادي المقارن.
في الحقيقة يمكن تقسيم الخسائر الإسرائيلية الاقتصادية إلى قسمين متمايزين: خسائر مباشرة وأخرى غير مباشرة. فالمباشرة تتعلق بتكلفة العملية العسكرية إضافة للخسائر التي سببها سقوط الصواريخ الفلسطينية. وهذه الخسائر تتوقف بمجرد توقف الصراع. وتعتبر هذه الخسائر سهلة الحساب نسبياً مقارنة بالخسائر غير المباشرة.
أما بالنسبة للخسائر غير المباشرة فهي صعبة الحساب والتقدير نسبياً. وهي تعتبر الخسائر الأخطر والأعمق أثراً. فهي لا تتوقف بتوقف الحرب بل تستمر بعدها. فقد تستمر لأشهر وقد تصل في بعض الحالات لسنوات. كالإضرار بالتصنيف الائتماني والبيئة الاستثمارية والسياحة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية.
فيما يتعلق بالخسائر الإسرائيلية الاقتصادية المباشرة فهي على مستويين. الأول تكاليف العملية العسكرية والثاني الأثر الاقتصادي لصواريخ المقاومة الفلسطينية. ففيما يتعلق بتكاليف العملية العسكرية فقد استدعت إسرائيل 7,000 جندي احتياطي. وهؤلاء تقدر تكاليف رواتبهم بما يقارب 10 ملايين دولار.
بالإضافة إلى تكلفة الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تشمل تكلفة القبة الحديدية وتكلفة الطيران والتعبئة والمدرعات وغيرها. وتم تقدير هذه التكاليف بـ 50 مليون دولار يومياً. وهذا يعني أن تكلفة الآلة العسكرية تجاوزت نصف مليار دولار.
فيما يتعلق بالخسائر التي سببتها صواريخ المقاومة الفلسطينية. فقد سببت هذه الصواريخ بشكل وسطي دماراً جزئياً أو كاملاً بأكثر من ألف بيت وسيارة ومنشأة بشكل يومي. وهذا يعني خسائر تقدر بأكثر من 50 مليون دولار خلال فترة الحرب.
تسبّبت صواريخ المقاومة في تعطل 25% من المنشآت الاقتصادية الإسرائيلية المجاورة لقطاع غزة. أما باقي القطاعات فتعمل بطاقة إنتاجية جزئية. ونتج عن هذا التعطل خسائر يومية فاقت 50 مليون دولار. وهذا يعني أن مجمل خسائر القطاع الإنتاجي بلغت نصف مليار دولار.
تراجع الاستهلاك والطلب الكلي في إسرائيل نتيجة سقوط صواريخ المقاومة. وقدرت الخسائر التجارية بأكثر من 42 مليون دولار يومياً. وتقدر الخسائر الإجمالية للقطاع التجاري الإسرائيلي بـ 400 مليون دولار خلال فترة الحرب. كما شهد سوق المال الإسرائيلي تراجعاً خلال فترة الحرب بلغت قيمته 28%. كما تراجع الشيكل الإسرائيلي بقيمة 1.4%.
بصفة عامة تعتبر الخسائر الاقتصادية غير المباشرة أكثر صعوبة من حيث الحساب والتقدير. وتحتاج لوقت إضافي لتتضح مختلف أوجهها وأشكالها. كما أنها تعتبر الأعمق أثراً على الاقتصاد. وقد تبقى آثارها وتبعاتها لعدة سنوات.
تتمثل الخسائر الإسرائيلية غير المباشرة بتضرر البيئة الاستثمارية وتراجع ترتيب إسرائيل على مؤشرات التنمية والاستثمار. إضافة لهروب الاستثمارات الحالية وتراجع الثقة بالاقتصاد الإسرائيلي. والإضرار بقيمة العملة الإسرائيلية على المدى الطويل وتراجع واردات السياحة وغيرها من المؤشرات.
من الخسائر غير المباشرة لصواريخ المقاومة أنها قد تكون أنهت الحلم الإسرائيلي بتحول إسرائيل لممر عالمي للطاقة. لا سيما أنها تخطط لتصدير النفط والغاز الخليجي عن طريق موانئها إلى أوروبا والاستغناء عن قناة السويس. إلا أن إصابة صواريخ المقاومة لخطوط الغاز الإسرائيلية أثبتت أن المشروع الإسرائيلي قد لا يرى النور.
قد يكون من الصعوبة قياس الخسائر غير المباشرة الإسرائيلية. ولكن وبالتأكيد فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيعاني ولمدة ليست قصيرة من التبعات الاقتصادية للحرب. ومما يزيد من حدة هذه التبعات أن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني بطبيعة الحال من مشكلات هي الأسوأ منذ حرب أكتوبر عام 1973م.
تقول تقارير اقتصادية إسرائيلية أولية بأن الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية تجاوزت 2,1 مليار دولار. وهو ما يشكل 0.5% من حجم الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي. وهذه النسبة خطيرة للغاية. فخلال أيام قليلة من الحرب خسرت إسرائيل هذه النسبة. فأي حرب طويلة نسبياً قد تدخل الاقتصاد الإسرائيلي في حالة شلل تام.
سببت حرب غزة عام 2014م خسارة لإسرائيل بلغت 0.3% من الناتج المحلي. مع أنها استمرت مدة تصل لعدة أضعاف مدة الحرب الحالية. فالحرب الحالية وعلى الرغم من قِصَر مدتها النسبية تمكنت من إرهاق الاقتصاد الإسرائيلي. وهذا دليل على تنامي قدرات المقاومة. وبالتالي فأي حرب قادمة قد تكون آثارها الاقتصادية أكثر حدة وأعمق أثراً.
تعتبر الخسائر الأقسى على الفلسطينيين هي الخسائر البشرية. ولكن وفيما يتعلق بالخسائر الاقتصادية فلا وجود لإحصائيات توضح هذه الخسائر. وهي بالتأكيد خسائر قاسية ولكن لا يمكن أبداً مقارنتها بالخسارة التي يمكن أن يخسرها الفلسطينيون لو قرروا عدم القتال. ففي هذه الحالة ستكون الخسائر في الأرض والمقدسات والقضية.
يعتبر الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة اقتصاداً بسيطاً نسبياً. فهو اقتصاد منخفض التكنولوجيا كثيف العمالة. من جهة أخرى يعتبر الاقتصاد الإسرائيلي كثيف التكنولوجيا منخفض العمالة. وهذا الأمر يزيد من فداحة الخسائر الإسرائيلية مقابل الفلسطينية.
مما لا شك به أن الخسائر الفلسطينية قاسية بشرياً واقتصادياً. ولكنها أهون أنواع الخسائر مقارنة بخسارة القضية والمقدسات. ولتوضيح حجم الخسارة الاقتصادية الإسرائيلية مقارنة بالإسرائيلية يمكن تشبيه هذه الخسائر بالخسائر الحاصلة نتيجة اصطدام سيارة فارهة بدراجة متواضعة. فتكلفة إصلاح السيارة الفارهة تفوق بأضعاف مضاعفة تكلفة إصلاح الدراجة.
أثبت الأثر الاقتصادي للحرب أنه قادر على قلب الموازين العسكرية وفرض كلمته على نتائج الحروب. لا سيما في حال الحرب بين أطراف غير متكافئة بالقوة. وعلى ما يبدو فإن المقاومة الفلسطينية تعي هذه النقطة بشكل جيد.