تعتبر العملات الإلكترونية أحدث أنواع النقود. وعلى الرغم من حداثتها فإنها تلاقي انتشاراً واسعاً لا سيما البيتكوين. وفي الفترات السابقة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بقيمتها. إذ تجاوزت قيمة البيتكوين الواحد 42,000 دولار. وهذا ما دفع العديد من الأفراد والمستثمرين للاستثمار بها. إلا أن السؤال هنا ما حكم تداول العملات الإلكترونية؟ وما موقف الشرع من البيتكوين؟
في الحقيقة أفتت العديد من دور الإفتاء بحرمة التعامل بالبيتكوين ونظرائها من العملات الإلكترونية. خصوصاً دار الإفتاء المصرية والفلسطينية والتركية وغيرها. وعلى الرغم من هذا التحريم ما زالت هذه العملات تلقى رواجاً وانتشاراً وإقبالاً مستمراً نتيجة الأرباح الكبيرة التي حققتها هذه العملات. فما الأسباب التي دفعت لتحريم تداول هذه العملات؟
قبل كل شيء وقبل الدخول في النقاط التي توضح الحكم الشرعي للنقود الإلكترونية من عدمها. لا بد من الوقوف على وظائف النقود في الشرع والاقتصاد. وبعدها يمكن مقارنة هذه الوظائف بما تؤديه العملات الإلكترونية. فإذا أدت هذه الوظائف بدون لبس أو غرر كانت جائزة والعكس صحيح.
بصفة عامة تقوم النقود بعدة وظائف. من أهم هذه الوظائف أنها مقياس القيمة. فهي أداة تسهم في تحديد قيمة الأشياء. علاوة على دورها كوسيط للتبادل. فمن خلالها يتم تبادل السلع والخدمات بين الناس. كما أنها أداة لحفظ القيم المادية لدى الأفراد والشركات والدول. وتختلف فاعلية النقود في أداء هذه الوظائف باختلاف العملات واختلاف استقرارها.
من جهة أخرى فإن المؤتمر الدولي الخامس عشر لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية المنعقد في الشارقة عام 2019م أكّد أن جهالة مصدر #العملات_الرقمية وجهالة الجهة الضامنة لها يشكل غرراً كبيراً وجهالة فاحشة لا تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. كما أن العمليات الإلكترونية التي يتم بها إصدار العملات الإلكترونية والتي تسمى “التعدين” تعتبر تعدّياً على مهام ولي الأمر.
مع ذلك يقول البعض بأن النقود الإلكترونية “الافتراضية” تشابه الحسابات الإلكترونية التي تصدرها معظم البنوك. إلا أن الرد على هذا الطرح يتمثل بأن الاختلاف الرئيس بين النقود الإلكترونية والحسابات البنكية الإلكترونية هي في سلطة الإصدار. فالنقود الإلكترونية مجهولة المصدر.
في الحقيقة تعجز النقود الإلكترونية عن القيام بمهام النقود التقليدية. فوظيفة مقياس القيمة ووسيط للتبادل وحافظ للقيمة لا يمكن تأديتها مع التذبذب الحاد في قيمتها. فهذه الوظائف بحاجة لثبات نسبي في قيمتها. لكن البيتكوين على سبيل المثال يتعرض لتذبذبات حادة في القيمة لا يمكن معها اعتباره مقياساً لقيمة السلع ولا لغيرها من الوظائف.
بالإضافة إلى ذلك يمكن القول بأن العملات الرقمية تنطوي على شبهة المقامرة في إصدارها وفي تداولها. فارتفاع قيمتها لعدة أضعاف خلال زمن قياسي يؤدي إلى أرباح فاحشة بدون جهد. فهذا الربح المتحصل بدون جهد يتقاطع مع المقامرة.
من جهة أخرى قد تستخدم العملات الإلكترونية لتمويل أنشطة غير شرعية. وهذا إضافة لأسباب التحريم. وقد يقول قائل هنا بأن النقود التقليدية هي الأخرى تستخدم أحياناً لتمويل أنشطة غير شرعية؟ فالجواب هنا أنه في حالة النقود التقليدية يمكن للسلطات ملاحقة مصدر ومستقر النقود. وبالتالي مكافحة هذه الأنشطة. وهذا غير ممكن في حالة النقود الإلكترونية.
علاوة على أن النقود الإلكترونية تعاني من إمكانية القرصنة الإلكترونية. وهناك من يقول بأنه من الاستحالة اختراق مواقع العملات الإلكترونية. والرد عليه يكون بأن القاعدة تقول: “إذا كنت ناقلاً فالصحة أو كنت مدعياً فالدليل”. فحتى اللحظة لم تقل أي مؤسسة علمية باستحالة اختراق مواقع هذه العملات. كما أن مواقع رسمية لدول كبرى جرى اختراقها. لذلك فاختراق مواقع العملات الإلكترونية أمر وارد.
من جهة أخرى يسعى البعض للبحث عن أدلة تبيح العملات الإلكترونية. ويحتجون بقيام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعدم إصدار عملة خاصة بالمسلمين وبقبوله بالعملات الموجودة آنذاك. والرد هنا أن الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- قَبِل التعامل بعملات معلومة المصدر كالعملة البيزنطية والفارسية.
بصفة عامة تعاني غالبية العملات الحالية من تذبذب في القيمة. إلا أنها ثابتة بشكل نسبي. ويدعم هذا الثبات تبنيها مِن قِبل سُلطات الدولة. بينما العملات الإلكترونية تتضاعف وتخسر عدة أضعاف في فترات قياسية. فهل يمكن أن تعطي شخصاً ما أجراً بعملة لها كل يوم قيمة تختلف جذرياً عن قيمتها في الشهر السابق؟
من هنا لا ترتبط العملات الإلكترونية بالدورة الاقتصادية العالمية إلا في الحدود الدنيا. فهي تُستخدم لشراء بعض المنتجات والخدمات المحدودة. فهي بذلك تجميد للقيمة وحرمان للأفراد وللمجتمع من حركة هذه القيمة. وهذا الأمر قد يقود على المدى الطويل -في حال زيادة الإقبال عليها- إلى تقويض فرص الاقتصاد العالمي في الانتعاش.
قبل كل شيء إن تعبير الاستثمار في العملات الرقمية يعتبر مصطلحاً مجازياً. فالإنفاق على العملات الإلكترونية لا يمكن أن يكون استثماراً حقيقياً. فالاستثمار يقوم على اجتماع رأس المال والعمل والتنظيم. بينما الإنفاق على العملات الإلكترونية لا يشمل إلا عنصراً واحداً من ثلاثية الاستثمار وهو رأس المال. لذلك لا يجوز تسميته بالاستثمار.
وفي الوقت نفسه الأرباح الاستثنائية التي حققها البيتكوين مؤخراً حفّزت العديد من الأفراد على الإنفاق على العملات الرقمية. ومراقبة تغير قيمتها بهدف مضاعفة رأس المال المنفق. وهذا الأمر على المدى الطويل من شأنه التأثير على ثقافة العمل والإنتاج وهروب رؤوس الأموال من سوق الإنتاج إلى سوق المضاربة بمعناها الرأسمالي.
لهذا السبب يتعامل غالبية الأفراد حالياً مع البيتكوين على أنها سلعة وليست عملة. فالهدف المتاجرة بها وليس استخدامها كعملة. فغالبية عمليات الشراء تتم خلال تدني قيمتها. ويتم البيع عندما ترتفع. فالتعامل بها هو مضاربة. ولا يخدم اقتصاد الأفراد ولا اقتصاد الحكومات ولا الاقتصاد العالمي.
إن تنامي سوق العملات الإلكترونية دون وجود غطاء اقتصادي إنتاجي لها من شأنه المساعدة على تضخم كمية المال المنفق عليها. مما قد ينذر بتشكيل فقاعة اقتصادية على غرار فقاعة الرهن العقاري التي انفجرت عام 2008م مُخلّفة أسوأ أزمة اقتصادية عرفها العالم منذ أزمة الكساد الكبير عام 1929م.
من جهة أخرى قد يكون التعامل بالعملات الرقمية جائزاً أحياناً أو تدعو الضرورة له. كحالة شراء بعض السلع التي لا يمكن دفع قيمتها إلا عن طريق العملات الرقمية. رغم أنه لم تسجل حتى الآن أي سلعة لا يمكن شراؤها إلا بعملات إلكترونية. والقصد هنا أنه بالإمكان استعمال النقود الإلكترونية في حال الضرورة إلا أنه حالياً يمكن الاستغناء عنها بشكل تام.
أما فيما يخص الأرباح المتحصلة من العملات الإلكترونية سواء عن طريق “التعدين” أو التداول فلا وجود لرأي فقهي واحد. فهناك من أباح هذه الأرباح وآخر حرّمها. ولعل رأي التحريم أقوى من الإباحة، فمن شروط تجارة العملات التقابض وإلا كانت رباً. وفي العملات الإلكترونية لا يكون التقابض ممكناً دائماً.
يتحكم الأفراد في إصدار النقود الإلكترونية من خلال “التعدين”. أو كما يسميه البعض “التنقيب”. وهو عملية تكنولوجية بحتة. وهي باختصار سلسلة من عمليات تكنولوجية معقدة ومتسلسلة تحتاج لحواسيب عالية الأداء تستهدف تشفير العملات الإلكترونية. وكمكافأة على الجهد المبذول في “التعدين” يتم منح القائم بهذا العمل أجزاء من البيتكوين بما يتناسب مع ما أنجزه.
بصورة شاملة فإن حفظ المال من #مقاصد_الشريعة الإسلامية. فأي قضية تتعارض مع هذا المقصد تعتبر مُخلّة بأحكام الشريعة. والعملات الرقمية قد تبدّد المال من خلال تذبذبها الحاد. ولذلك فهي تتعارض مع مقصد حفظ المال.
على أي حال يمكن القول بأن إطلاق اسم النقود على العملة الإلكترونية هو اسم اصطلاحي. فالنقاط التي تختلف فيها عن النقود التقليدية أضعاف ما تشترك فيه. وهذا ما يدفع لتحريمها. وفي حال انتفت عنها أسباب التحريم يمكن دعم انتشارها وتداولها. فالعلة الرئيسة في التحريم هي جهالة الإصدار وإلحاق الضرر بأموال الناس.
إن خبراء الاقتصاد لديهم القدرة على فهم مختلف الجوانب الاقتصادية المتعلقة بالنقود الإلكترونية وتحديد آثارها بدقة على اقتصاد الأفراد والدول. فعليهم عرض كافة هذه الجوانب على علماء الشريعة. فإن توافقت مع الشرع أجازوها والعكس صحيح. فلا يمكن التسليم برأي أهل الشريعة دون الاستعانة بخبراء الاقتصاد.
في النهاية إن التطور التكنولوجي يفرض نفسه على عالم اليوم. فالمستقبل حكماً للعملات الرقمية. فالحل يتمثل في معالجة الجوانب السلبية في العملات الإلكترونية. وذلك من خلال إما توكيل أمر إصدار هذه العملات للمؤسسات المالية أو بإيجاد صيغة توافقية بين “التعدين” وأنظمة البنوك المركزية. وربط هذه النقود بالدورة الاقتصادية.