في عام 1956، أدركت الإمبراطورية البريطانية أن معركة السويس قدمت درساً فادحاً لها بعدما فقدت السيطرة على خطوط الطاقة إلى أوروبا. فما حدث أظهر أن الطاقة ليست سلعة فقط، بل أداة تُعاد بها صياغة حدود النفوذ. ولم تكن آسيا بمنأى عن هذا، فقد تصدر أمن الطاقة الواجهة نتيجةً للتوترات الجيوسياسية في القارة والعالم أجمع.
أثبتت التوترات الجيوسياسية أن لاعبو الطاقة مَن يفرضون سيطرتهم عليها بإمكانهم السيطرة على مسار الأحداث وتحقيق المكاسب وقت الأزمات، بعدما أصبحت أنابيب النفط ومسارات الغاز أدوات سيادة تتحرك بها الدول لفرض قرارها دون الحاجة إلى خوض معارك طاحنة.
برز ذلك مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، ففي هذا الوقت اعتقد الجميع أن أوروبا على شفا أزمة طاقة عميقة لا يمكن معالجتها، لكن خلال العامين التاليين كانت النتيجة أفضل مما توقعه معظم الناس، بفضل المرونة التي وفرتها محطات إعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال (LNG).
إلا أن التدافع الأوروبي على إمدادات الغاز الطبيعي جاء على حساب المشترين الآسيويين الفوريين. فمثلاً، شركة كوريا للطاقة الكهربائية (كيبكو)، المملوكة لكوريا الجنوبية، تكبدت خسائر فادحة في عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، نتيجةً لارتفاع أسعار الغاز المسال بشكل حاد ووصل دينها إلى ١٥٤ مليار دولار.
كما عانت شركات المرافق اليابانية لكنها كانت أكثر تحصينًا بفضل اعتمادها الأقل على الشحنات الفورية وإعادة تشغيل أسطول المفاعلات النووية في السنوات الأخيرة.
مع ذلك، تضرر عدد من مستهلكي الغاز المسال في آسيا. فمثلاً، شهدت الهند انخفاضًا في حجم الواردات بنسبة 15% في السنة المالية 2022-2023. وخفضت باكستان وبنغلاديش وارداتهما بنسبة 19% و10% على التوالي في عام 2022، مما أدى إلى زيادة حادة في انقطاعات الكهرباء.
بحلول النصف الأول من عام 2024، دفعت أزمات بحر الصين الجنوبي وتمدّد النفوذ العسكري الأمريكي في المحيط الهادئ، إلى توقع ارتفاع أسعار الغاز المسال في آسيا بشكل حاد، لكن الواقع خالف التوقعات نتيجة اعتماد القارة على صِيَغٍ قانونيةٍ ودبلوماسيةٍ وفرت الحماية لها من تقلبات الأسواق والتوترات.
ووفق تقرير وكالة الطاقة الدولية (IEA) في مايو 2025، فإنَّ متوسط أسعار تسليم الغاز الآسيوي خلال الربع الأول من العام استقر عند مستوى 11.4 دولاراً للمليون وحدة حرارية، بانخفاض طفيف عن نفس الفترة في 2024 رغم تصاعد التوتر.
يعزو هذا الهدوء إلى الترتيبات التعاقدية “الذكية” بعد أزمة أوكرانيا 2022؛ حيثُ أعاد اللاعبون الكبار، مثل: قطر وماليزيا، صياغة عقود استيراد الغاز طويلة الأجل. في ظل توقعات قوية بارتفاع الطلب العالمي بأكثر من 50% بحلول عام 2040، مع تمثيل قطر لنحو 40% من إجمالي إمدادات الغاز حول العالم بحلول عام 2029.
بالفعل، وقعت اليابان في نهاية 2024 اتفاقاً جديداً مع قطر يضمن توريد 6 ملايين طنّ سنوياً من الغاز المسال حتى عام 2040. فيما عزَّزت كوريا الجنوبية شراكتها مع أستراليا وماليزيا، في صفقاتٍ تحد من صدمات الأسعار.
رغم اعتماد الصين الهائل على الاستيراد، إلا إنهَا تعد الصين لاعباً رئيسياً في سوق الغاز الطبيعي المسال في آسيا، لتبنيها سياسة انتقائية عند الشراء، إذ تفضل الاستيراد عبر الأنابيب والإنتاج المحلي على الشراء في السوق الفورية، إلا في حالة مراجحة الأسعار.
ما يعزز موقف بكين وجود بنية تحتية مدروسة واستثمارات بعيدة النظر. فعلى سبيل المثال، تجاوزت إمدادات الغاز الروسي إليها عبر خط أنابيب “قوة سيبيريا” 20 مليار متر مكعب في عام 2023، وهو رقم قياسي. كما أبرمت الصين صفقة تاريخية مع قطر في 2024 لمدة 27 عاماً.
علاوة على ذلك، حصلت الصين بالفعل على عقود طويلة الأجل تغطي أكثر من 50 مليون طن سنويًا، مما يحد من اعتمادها على تقلبات الأسعار الفورية وسط ترجيحات بتلبية أي نمو إضافي في الطلب من خلال واردات إضافية عبر الأنابيب من روسيا ومصدري آسيا الوسطى.
ولم تكن العقود المبرمة وحدها عامل القوة، فالنفوذ الصيني امتد إلى التحكم الجزئي بمسارات الإمداد بفضل الاستثمارات الضخمة في موانئ إندونيسيا وميانمار وسريلانكا، في الوقت الذي تسيطر الولايات المتحدة على التكنولوجيا والبنية التحتية لتسييل الغاز. وهكذا تُصاغ دبلوماسية الغاز في آسيا ويُرسم مستقبل الصراع القادم.
إذاً يقاس النفوذ في آسيا حالياً بالعقود المبرمة ومدتها ومرونة البنود. وهذا ما أدركته الدُّول المُصدرة مثل قطر وأستراليا، واتجهت إلى اختيار الشركاء وفق معايير إستراتيجية تتجاوز المنفعة الاقتصادية إلى الشَّراكة السياسية.
بناءً على ذلك، أصبح قرار التصدير في آسيا مرتبط بمَنْ يُحْسِنُ قراءةَ موازين القوى، ويُبرم عقوده بهدوء ويستثمر في البنية التحتية بذكاء.