يعد الغزو الروسي لأوكرانيا التهديد الأخطر للسلم العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. وترك آثاره المباشرة على الاستقرار الدولي اقتصادياً وسياسياً. وهو ما يجعل العالم أجمع يتطلع لإمكانية إيجاد حل سلمي لهذه الحرب. وهو ما يعطي المفاوضات بين الطرفين برعاية تركية أهمية دولية. والسؤال الأبرز هنا ما مصلحة تركيا في نجاح المفاوضات الروسية الأوكرانية؟
في الحقيقة ترتبط تركيا بكل من روسيا وأوكرانيا بعلاقات اقتصادية جيدة. وتتطلع لتدعيمها. فالتبادل التجاري التركي الروسي يبلغ 25 مليار دولار. ومن المتوقع ارتفاعه ليبلغ 100 مليار دولار بعد عدة سنوات. مما يجعل روسيا الشريك الاقتصادي الأهم لتركيا. ويبلغ التبادل التركي الأوكراني 10 مليارات دولار. فالحرب في حال استمرارها ستسبّب خسارة 110 مليارات سنوياً دولار لتركيا كتبادل تجاري.
كما تبلغ قيمة الاستثمارات الروسية التركية المتبادلة 20 مليار دولار. كما تستقبل تركيا 6 ملايين سائح روسي سنوياً. وهو ما يشكل 20% من عدد السياح الأجانب. فتضرر الاقتصاد الروسي ليس في مصلحة تركيا التي تسعى لتعزيز شراكتها الاقتصادية مع روسيا. وذات الأمر ينسحب على أوكرانيا.
في الواقع قد تحصل تركيا على بعض المكاسب الاقتصادية من استمرار الحرب. وفي مقدمتها انتقال الاستثمارات الأجنبية في روسيا إلى تركيا. لكن الخسائر الناجمة عن استمرارها تفوق مكاسبها. ولذلك ووفقاً لمعيار المغانم والمغارم فإن انتهاء الحرب يشكل مصلحة اقتصادية استراتيجية لتركيا.
تقع الحرب الحالية في الفضاء الاستراتيجي لتركيا. وهو ما يشكل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية ولأمنها القومي. كما أن تركيا التي توترت علاقاتها السياسية مع عدة أطراف دولية خلال العقد السابق تسعى لترميم هذه العلاقات. وتسعى لأن تكون لاعباً إقليمياً وعالمياً في الوساطة السياسية بين مختلف الأطراف.
من جهة أخرى كان العالم الغربي ولعدة عقود الأقرب لتركيا. مع فتور نسبي في علاقتها مع دول المعسكر الشرقي. لكن توتر العلاقات التركية الغربية سابقاً دفع تركيا للعمل على موازنة علاقاتها بين الغرب والشرق. بحيث تبقى في منتصف المسافة بما يحقق مصالحها القومية. لذلك فإن إنهاك وإضعاف روسيا ليس في مصلحتها الاستراتيجية. لذلك فإن السعي لإنهاء الحرب كان خياراً استراتيجياً.
لا تشكل الحرب مصلحة لأي طرف دولي. فروسيا تخشى من انهيار اقتصادها في حال عدم قدرتها على حسم الحرب قريباً. والغرب يخشى من انتصارها وسيطرتها على أوكرانيا. وبالتالي تهديد الأمن القومي الأوروبي. كما أن التوتر الذي ساد إمدادات الغاز إلى أوروبا هدّد العالم بأزمة اقتصادية كبرى. وهو ما يدفع العالم لدعم أي جهود سياسية للحل.
من ناحية أخرى ترى الولايات المتحدة الأمريكية في الجهود التركية للوساطة فرصة لإنهاء التوتر في أوروبا. خاصة أنها تخشى اتساع رقعة الحرب واضطرارها لدخولها. وهي التي تتجنّبها قدر الإمكان منعاً لأي انزلاق إلى حرب عالمية. إضافة لقلقها على مستقبل اقتصادها الذي ما زال يعاني من التضخم وبعض تبعات أزمة كورونا.
قبل بدء الحرب قامت تركيا بجهود عدة لمحاولة تجنّب الحرب. لكنها لم تنجح. وحالياً وفي ظل المفاوضات الحالية يبدو أن الوساطة التركية في طريقها للنجاح. خاصةً في ظل التصريحات الإيجابية من طرفي الحرب ومن الوسيط التركي.
إن تركيا وفي حال نجاح وساطتها ستعزز حضورها الدولي كجهة ضامنة للاستقرار العالمي. وستعزز من أهمية توسطها المسافة الاستراتيجية بين الغرب والشرق. وهو ما سيعزّز القوة الناعمة التركية. ومن غير المستبعَد أن يستفيد العدالة والتنمية داخلياً في حال نجاح الوساطة في تعزيز فرصه في الانتخابات المقبلة.
في النهاية إن استقرار المنطقة يعد ضرورة استراتيجية لتركيا التي لديها مشاريع كبرى. كأن تكون عقدة دولية لتوزيع الغاز. إضافة لسعيها لتطوير حضورها الدولي كقوة مهمة. فالنجاح في الوساطة بين طرفي الحرب يمكن وصفه بأنه نجاح استراتيجي لها. قد يفتح الباب أمامها في الدخول في ملفات دولية أخرى.