يُعد الذهب أصل آمن استقر سعره تاريخيًا في أوقات التضخم وتقلبات السوق وعدم اليقين الجيوسياسي. لهذا، كان الذهب ملاذ آمن للمستثمرين لحماية ثرواتهم. لكن هناك عوامل تحرك سعر الذهب قد تكون متضاربة أحيانًا، مما يجعل من المهم فهم انعكاس هذه العوامل وغيرها، على السعر.
رغم أن الذهب أصل دولي مُقدر بعيدًا عن العملات الوطنية والظروف الاقتصادية، إلا أن هذا المعدن النفيس مقوم بالدولار الأمريكي، أي أن قيمة الذهب تُسعر به. والعلاقة بين العملة والمعدن علاقة عكسية، ففي حال انخفاض قيمة الدولار، يقابله ارتفاع في سعر الذهب ويزيد الإقبال على شراء الذهب بكميات أكبر.
على سبيل المثال، سجل الذهب أعلى سعر له على الإطلاق عدة مرات في عام 2024 بالتزامن مع انخفاض القوة الشرائية للدولار الأمريكي.
لا يعتبر الأفراد اللاعبين الرئيسيين في أسواق الذهب العالمية. بل البنوك المركزية، التي تتحرَّك بخفةٍ ودهاءٍ خَلْفَ الكواليس. فعندما ينخفض سعر الذهب فجأة، ويسود الذُّعر بين الناس خوفاً من انهيار السوق، ويسارعون إلى البيع بدلاً من الخسارة – كما يتصورون -، تتحرَّك مؤسسات ضخمة لشراء الذهب بهدوء وبعيداً عن الأضواء.
واليوم، نشهد تزايداً في استثمارات الذهب بقيادة البنوك المركزية العالمية، مقارنةً بسندات الخزانة الأمريكية. وهو ما أظهرته دراسة استقصائية أجراها مجلس الذهب العالمي والتي خلصت إلى اهتمام البنوك المركزية بشكل كبير بالذهب عند التعامل مع الأزمات، وذلك لخصائصه كمخزن للقيمة.
على سبيل المثال، عندما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على الأصول الروسية وجمدتها، اتجهت البنوك المركزية بباقي الدول لا سيما دول مجموعة (البريكس+) لشراء المزيد من الذهب بوتيرة أسرع. والسبب في ذلك، رغبة هذه الدول في التخلص من سيطرة الدولار الأمريكي والغرب على حد سواء.
تكدس الصين منذ سنوات احتياطيات هائلة من الذهب، كجزء من إستراتيجية وطنية للتعامل مع سيناريوهات جيوسياسية حساسة، منها احتمالية غزو تايوان. ويعد الاستقلال المالي عن الدولار الأمريكي، وامتلاك غطاء ذهبي، عنصر حاسم في مواجهة العقوبات الاقتصادية المحتملة عند الإقدام على هذه الخطوة.
ووفقاً لأرقام البنك الدولي، أصبحت الصين ثاني أكبر مستورد للذهب غير النقدي في العالم بعد سويسرا. علاوة على ذلك، تُعد أيضًا أكبر منتج عالمي لهذا المعدن الأصفر. وقد استطاع البنك المركزي الصيني شراء كميات كبيرة من الذهب، مستحوذاً على رقم قياسي بلغ 2279.57 طن، وسط تكهنات بوجود عمليات شراء سراً.
ويؤثر شغف الصين بالذهب بشكل كبير على الأسعار العالمية، وهو ما كشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز، التي أشارت إلى ارتفاع السعر إلى مستويات قياسية رغم وجود عوامل تجعل الذهب استثمارًا أقل جاذبية. وبالفعل، مثلت زيادة الصين لاحتياطياتها من الذهب خلال عام 2024، أحد العوامل الرئيسية لارتفاعه لمستويات قياسية متجاوزاً 2500 دولار للأونصة.
إذاً، السياسة النقدية، أو الاضطرابات الجيوسياسية وغيرها من عوامل ظاهرية، ليست المحرك الوحيد لأسعار الذهب. وكما يصنف الذهب ملاذ آمن للأفراد والمستثمرين، ينظر إليه كأداة حاسمة أمام الدولار الأمريكي والسياسات الغربية العقابية عند البنوك المركزية؛ لا سيما في دول مثل روسيا والصين تسعى لإعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي.
من هنا نفهم سبب سَعْي بعض القُوَى لكَبْح أسعار الذهب مؤقتاً، كي تشتريه بهدوء مِن أيدي مَن اعتقدوا أن الهبوط خسارة، بينما هو في الحقيقة فرصة للشراء. ليكون الذهب بذلك أداة لا غنى عنها في المعارك الاقتصادية.